close
أخبار تركيا

ما مشكلة الرئيس الفرنسي مع الإسلام؟ وماذا يريد منه؟

[ad_1]

توعّد ماكرون برقابة صارمة على المدارس الخاصة التي بقيت متنفّساً نسبياً للمسلمات من أنظمة الحظر التي فرضتها الدولة على لباس التلميذات. وتقضي التوجّهات الجديدة بمراقبة المساجد وتعيّن على كل جمعية تتلقّى دعماً من أموال عامة التوقيع على “ميثاق العلمانية”

كان خطاباً طال انتظاره، تحدّث فيه إيمانويل ماكرون عن توجّهات الدولة الفرنسية نحو مسلمي الجمهورية، وتغيّب لأجله عن القمة الأوروبية في يومها الثاني. صعد ماكرون المنصّة في ضاحية باريسية يوم الجمعة 2 سبتمبر/ أيلول للحديث عن “الإسلام السياسي”؛ وهو مصطلح إشكالي وغير منضبط جرى النفخ فيه في فرنسا وعبر أوروبا بمجرّد طيّ ملف “داعش”.

تُلائم وصمة “الإسلام السياسي” تأويلات تحشد متناقضات وفيرة تحت عباءتها الفضفاضة، فالمصطلح تستعمله نزعة مكارثية متذاكية عبر أوروبا تتوسّع في الوصم واستنطاق القناعات ومراقبة المجتمع وفرض القيود بذرائع يستصحبها مفهوم تنشغل به مؤتمرات وتقارير ومؤسسات وهيئات رقابية عبر أوروبا؛ منها مركز مختص أسّسته الحكومة النمساوية في صيف 2020.

اقتضى الموقف تهويلاً من ماكرون في وصف الواقع الداخلي بحديثه عن الانفصالية أو الانعزالية، وعرض النظام الجمهوري العلماني في هيئة هشّة بسبب التهديد “الإسلامي”.

أقرأ أيضا:

أزمة
فرنسا المزمنة مع قطعة قماش

لم يحصر الرئيس الفرنسي مقاربته في نطاق جمهورية يتحدّث باسمها؛ فعنده أنّ “الإسلام دين يمرّ بأزمة في جميع أنحاء العالم اليوم، ونحن لا نرى هذا في بلدنا فقط”. يتوجّه خطابه المنطلق من ضاحية باريسية إلى العالم أيضاً بمقاربة إقصائية مقترحة ضمناً على الدول والحكومات في التعامل مع مسلميها، واستسهال تفسير معضلات الواقع المزمنة بشكل سطحي من خلال الإسلام تحديداً.

أدرج ماكرون تعبيرات تمنح انطباعاً شكلياً بتوازن خطابه، مثل دعوته إلى “فهم أفضل للإسلام”، لكنه لم يعبِّر بنفسه عن هذا الفهم المتوازن عندما اعتبر أنّ “الإسلام يمرّ في أزمة” عبر العالم. لم يبتعد الخطاب الرئاسي في جوهره عن مرافعات التشهير بالإسلام والمسلمين التي اعتادها زعماء أقصى اليمين رغم اختلاف النبرة، وتؤكِّد كلمته من جديد معضلة فرنسا المزمنة في التعامل الرسمي مع الدين الإسلامي وتحسّسها الواضح من مسلميها وخصوصياتهم الدينية والثقافية وإحجامها عن الاعتراف اللائق بالتنوّع في فضائها الديموغرافي الداخلي.

يُسفِر خطاب تأزيم الإسلام هذا عن أزمة مركّبة ومزمنة لدى القيادة الفرنسية والنخب المحيطة بها في إدارة التنوّع الديني والثقافي في البلاد بذريعة جمهورية، ويكشف عن منحى استعمال العلمانية كهراوة أخلاقية تُشهَر في وجه بعض المجتمع. تحدّث الخطاب عن الأحياء السكنية والتعليم والعمل والسباحة والملابس والطعام والزواج والأئمة والجمعيات والحياة الدينية وعن تصوّرات البشر أيضاً، وأوحى بتوجّه لتشديد نزعة الحظر والتقييد والاشتباه التي تتعقّب مسلمي فرنسا وأوروبا في القرن الحالي.

عندما يتحدّث المسؤولون الفرنسيون عن “الجمهورية”، كما تكرّر في خطاب ماكرون؛ فإنّ المفردة توحي بإرادة هيمنة ثقافية على المجتمع؛ واستغلال علاقة الدولة مع مواطنيها بإلزامهم بأن يتشرّبوا “قيم الجمهورية” كما يشرحها السياسيون تحديداً وأن يلتزموا بإخلاص عميق النسخة الجديدة من التأويلات التي يخرج بها سيد الإليزيه بشأنها.

ولأنّ الأمر يتعلّق بمسلمين يتركّزون في الهامش السياسي والاقتصادي وفي ضواحي المدن؛ يصير سهلاً على النخبة السياسية والإعلامية والثقافية في الأحزاب والبرلمان والمنصّات الجماهيرية أن تتواطأ مع المنطق الإقصائي المتذاكي بحزمة تشريعات وإجراءات ضاغطة لا تكتفي بما سبق إصداره منها، وأن تخوض مزايدات شعبوية وانتخابية عبر هذه الملفّات النمطية.

عبّر خطاب ماكرون عن أزمة ثقة عميقة بين الدولة الفرنسية ومواطنيها الذي يشكِّلون أعرض وجود مسلم في القارة الأوروبية. لم ترحِّب “الجمهورية” أساساً بفكرة الأقليات والمكوِّنات المتنوِّعة حتى ضمن أقاليم فرنسية ذات خصوصيات ثقافية ولغوية واضحة، فالدولة حرصت على الانطباع بتجانس شعبها في فضاء الجمهورية حسب معايير ثقافية وسلوكية نمطية مقررة مركزياً مع مساءلة المعتقدات واستنطاق القناعات الذاتية أحياناً. يستهدف هذا الخطاب، في ظاهره على الأقل، أقلية مسلمة تُصوّر على الملأ في هيئة منبوذة وتُلحَق بها نعوت شائكة ومصطلحات شائنة وإن بدا أنّ مداؤ الحديث ظاهرياً عن متطرفين وحسب. يحدّ هذا في المحصِّلة من التضامن المجتمعي مع مسلمي الجمهورية الذين يستفرد بهم قصف معنوي متكرر من خنادق شتى.

اقرأ أيضا:

فرنسا
وسياسة صب الزيت على النار في شرق المتوسط

واقع الحال أنّ مناورات السياسيين ومزايداتهم تمسّ المجتمع عموماً من وجوه عدّة، فمع استعصاء عهد ماكرون في مواجهة معضلات اقتصادية واجتماعية منذ مظاهرات “السترات الصفر” ثم عواقب موسم كورونا الثقيلة الذي تتصاعد مؤشراته؛ يلجأ الرئيس الفرنسي إلى صندوق أدوات قديمة ورثه من أسياد الإليزيه السابقين؛ وهو إثارة ملف المسلمين بصفة تهويلية وصرف أولويات الجدل العام في البلاد بعيداً عن معضلات الواقع وأداء الحكومة.

استسهل الرؤساء الفرنسيون إطلاق مصطلحات تربط الإسلام بنعوت سلبية، وإن كان “الإرهاب الإسلامي” و”التطرف الإسلامي” أشهرها؛ فإنّ القائمة امتدّت مع ماكرون لتصل إلى “الانعزالية الإسلامية”. يؤكِّد خطاب ماكرون أنّ التفوّهات المسيئة من قبل لم تكن زلة لسان من أحدهم، واتّضحت مع كلمته الطبيعة التراكمية لنزعة الحظر والتقييد والرقابة والتفرقة التي تحاصر مسلمي فرنسا منذ عقود تحت ذرائع حماية العلمانية وتعزيز “قيم الجمهورية”.

أعلن ماكرون عن قيود جديدة سيتم تنزيلها على مسلمي بلاده، ويبدو أنها ستمسّ النساء والفتيات والأجيال الجديدة بصفة خاصة. جاء ضمن ذلك، مثلاً، توسيع حرمان المسلمات من تغطية شعورهنّ ليدخل إلى نطاق العمل في القطاع الخاص، وفرض قيود على المسابح لمنع الانفصال بين الجنسين، ومنع تصنيفات الطعام في مقاصف المدارس بما يراعي الخصوصيات الدينية. توعّد ماكرون أيضاً برقابة صارمة ستتنزّل على المدارس الخاصة التي بقيت متنفّساً نسبياً للمسلمات من أنظمة الحظر والتقييد التي فرضتها الدولة على لباس التلميذات بدءاً من سنة 2004 بحجة “منع الرموز الدينية البارزة”. وتقضي التوجّهات الجديدة بمراقبة المساجد وتقييد تمويلها وأن يتعيّن على كل جمعية تتلقّى دعماً من الأموال العامة التوقيع على “ميثاق العلمانية”.

رغم أنّ منطوق القوانين والإجراءات المتعلقة بالحظر والتقييد في فرنسا وغيرها تأتي عادة في صياغات عامّة موجّهة إلى المواطنين عموماً كي تتملّص من وصمة القوانين التمييزية؛ إلاّ أنّ ماكرون أوحي خلال سياق خطابه الصارم أنها تدابير استثنائية تختصّ بالمسلمين تعييناً، وأنّ الجمهورية الفرنسية لم تكتفِ بما سنّه مشرِّعوها من قيود متوالية على اللباس والسلوك والحياة الدينية والثقافية للمكوِّن المجتمعي المسلم الموضوع بصفة مزمنة في بؤرة التشهير السياسي والمطاردة الإعلامية.

أقرّ إيمانويل ماكرون في خطابه بمشكلة بنيوية في تعامل فرنسا مع المسلمين، عندما تحدّث عن سياسات الإسكان التي أنتجت الضواحي الإثنية المهمّشة، لكنه استحضر هذا لتأكيد وصمة “الانعزال الإسلامي” في “غيتوهات” والدفع الرسمي بهذه الحجّة نحو مزيد من سياسات ذات أثر إقصائي بحق المسلمين في فضاء الجمهورية.

حشد الرئيس الفرنسي عباراته لتأكيد فكرة “أزمة الإسلام” فانكشفت على الملأ أزمته مع الإسلام، وما أعلن عنه في الخطاب يتوِّج من جانب آخر محاولات رسمية لتلفيق “إسلام” بمواصفات محددة حسب رغبات السياسيين، من خلال استراتيجيات دؤوبة مكرّسة لهذا الغرض. يتناقض السياسيون مع أنفسهم عندما يتدخّلون بذريعة العلمانية في الشأن الديني بطريقة فجّة ويحاولون فرض رؤاهم الفوقية بشأن الإسلام مع تسخير معاهد وكليات ومؤسّسات ومنصّات ومناصب لهذا الغرض، كما يجري في دول أوروبية عدّة.

ويبدو أنّ إحباطات ماكرون في ملفات السياسة الخارجية انعكست على خطابه بأن تعسّف في تفسير ما يجري عبر القارّات بمقولة أحادية عن أنّ “أزمة الإسلام حول العالم”. إنها نتيجة منطقية لأحكام يصدرها سياسيون ينظرون إلى الواقع من ثقب إبرة. يروق هذا المنطق لحكومات وسلطات يمارس بعضها التطهير العرقي والتهجير الجماعي والقهر الثقافي بحقّ شعوب وأقليات وأقاليم مسلمة؛ ومنها الصين والهند وميانمار.

نُسِجت كلمة ماكرون على منوال خطابات أسلافه في المنصب، مثل جاك شيراك عندما تحدّث من الإليزيه قبل ست عشرة سنة عن إنقاذ العلمانية من قطع قماش تغطي شعر بعض التلميذات. حشد شيراك وقتها حججه لإظهار جدوى منع العلامات الدينية البارزة في المدارس؛ ثم كشف ماكرون أخيراً أنّ مشكلة الجمهورية لم تنته مع كل متواليات الحظر والقيود التي تعاقبت خلال عهود شيراك وساركوزي وأولاند بالذريعة النمطية ذاتها؛ وهي أنّ “قيم الجمهورية” مهدّدة وأنّ العلمانية في خطر. صار واضحاً أنّ السعي الدؤوب يتوجّه الآن نحو مزيد من التقييد، وربما مع محاولة نحت “إسلام” بديل حسب مواصفات الإليزيه؛ قبل الانتخابات وبعدها.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

المصدر: TRT عربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى