close
أخبار تركيا

“ثورة” البائسين أو النسخة القادمة من الخريف العربي

[ad_1]

لنعترف بأن النسخة الأولى من ربيع الشعوب تم الإجهاز عليها وتحويرها، في أكثر من قطر عربي، إذ سرعان ما استعادت الدولة العميقة أدوارها وأحكمت قبضة الحديد والنار، ليتم إغلاق قوس الديمقراطية، والعودة بالنسق السياسي إلى سابق عهده.

هل نسير باتجاه اللاأين واللامخرج من هذه الورطة الجماعية؟ هل أضعنا الطريق، وما بات مُتاحاً حتى إمكان العودة؟ أم إننا نتجه بخطى حثيثة نحو هزات وقلاقل اجتماعية أكثر إرباكاً وتدميراً؟ فالأرقام تشير أن هناك ما يناهز نصف مليار نسمة من بني الإنسان تَعَسَّرَتْ وضعياتهم الاجتماعية بسبب الجائحة، وانتهوا إلى الدرك الأسفل من الفقر والهشاشة، كما أن هناك ما لا يقل عن 100مليون نسمة في العالم العربي معنيون بهذا النزول، الذي يتواشج مع التجهيل والتعمية والترهيب، من الماء إلى الماء.

وهو ما يشير في “تقدير موقف” إلى احتمال انطلاق موجات جديدة من الهزات والرجات التي قد يتعذر، حينها، تسميتها بالربيع ولا الخريف، ولا حتى توصيفها بالثورة الناجزة، لأنها من المحتمل أن تكون عنفاً مضاداً فائق الدرجة والنوع، تصفي به الفئات المحرومة حساباتها مع مالكي وسائل الإنتاج والإكراه.

فما يرشح من الهامش المجتمعي يشير إلى “حرب أهلية” صامتة وغير معلنة، تتواصل بصيغ متعددة، وتدل على أن مثلث التهميش والتفقير والتجهيل الذي استهدفت به الشعوب العربية، سيقودها إلى أحلك المآلات، وسيجعل الدولة والمجتمع يؤديان الثمن غالياً في الحاضر والمستقبل.

لنعترف بأن النسخة الأولى من ربيع الشعوب تم الإجهاز عليها وتحويرها، في أكثر من قطر عربي، إذ سرعان ما استعادت الدولة العميقة أدوارها وأحكمت قبضة الحديد والنار، ليتم إغلاق قوس الديمقراطية، والعودة بالنسق السياسي إلى سابق عهده.

ولعل ما حدث ويحدث في مصر دليل على “اغتيال” الربيع بأيادٍ محلية ودعم مباشر من بعض دويلات الخليج، التي أُسْنِدَتْ لها”مهمة”وقف زحف الربيع.

لكن، ولأن البعد الاحتجاجي متأصل في الإنسان، ولأن شروط إنتاج الحراكات ما زالت مستمرة، فقد كنا في السنوات الثلاث الأخيرة على موعد مع “ربيع مستعاد” لاح بكل بهاء في السودان وتونس والعراق والأردن والمغرب، إلا أنه، وللأسف الشديد، سيتعرض بدوره للتحوير والتحجيم، لأجل تسييد منطق إعادة إنتاج القائم من أوضاع وبنيات وعلاقات.

اقرأ أيضاً:

تغول
الدولة العربية وزمن الاستبداد الناعم

لا بد من التأكيد على أن اغتيال ربيع الشعوب لم يستند فقط على خدمات الأجهزة القمعية، وإنما تواصل عبر آليات متعددة من قبيل سحق الطبقة المتوسطة، وإلغاء دورها الطليعي، وكذا عن طريق شراء الذمم وتبخيس دور المثقفين، والإعلاء بالمقابل من قيمة الخبراء والتكنوقراط، ثم العمل على تشويه السياسي وقتل السياسة.

كما تواصلت عمليات إيقاف زحف الربيع باستراتيجيات التمييع والتتفيه، عبر نشر الرداءة والتفاهة، وصولاً إلى هدف التجهيل الشامل لفئات عريضة من القاع الاجتماعي.

كل ذلك سينتج في النهاية “مواطناً” على المقاس، همه الأساس هو تأمين خبزه اليومي، ومخدراته التي تفصله عن واقعٍ يَسْحَلُهُ ويذكره في كل حين بأنه معدوم الكرامة والحرية والانتماء، لهذا تجده غائصاً في البحث عن “فضائح البوز” وتفاهات العوالم الرقمية، غير مُنْشغلٍ بالتغيير السياسي ولا بإعادة توزيع الثروة أو فصل السلطات.

ولهذا يمكن القول بأن الكثير من الدول العربية “نجحت” إلى حد كبير في إنتاج جيوش من “المواطنين” غير المعنيين بكل ما له علاقة بالتدبير السياسي لأمور الحكم وتوزيع عوائد التنمية.

لكنها لا تدري أن هذه الجيوش الجرارة التي تم تدجينها وتفقيرها وتجهيلها، هي ذاتها التي تحمل التهديد لاستمرارية الدول ذاتها، وهي ذاتها التي ستخرج محتجة عند أول هزة لتسديد الحساب والانتقام لسنوات التهميش والإقصاء، بمعنى أنها لن تمارس الاحتجاج باللاعنف، ولن ترفع اللافتات وتترافع بشأن المطالب برقي حضاري، كما فعل شباب 20 فبراير (شباط) في المغرب سنة2011، بل إنها ستخرب وتنهب وتدمر كل ما يأتي في طريقها، لأنها، وبكل بساطة، ليس لديها ما تخسر، وأنها راكمت مخزوناً فائقاً من السخط والحقد، بسبب الحرمان والإقصاء والتجهيل القصدي.

مشكلتنا في العالم العربي أننا نريد مواطناً يجيد التطبيل لا غير، ولكم ننسى أن الضغط يولد الانفجار، وأنه مهما أبدعت “السلطويات العربية” في استراتيجيات الإلهاء والتنويم والتتفيه، فلا أحد بمقدوره أن يمنع زحف الربيع، ولا أحد بمقدوره أن يمنع الشعوب من تقرير مصيرها وإسماع الآهات والزفرات.

ولكم يتناسى مُلَّاكُ الحقيقة في الدولة العميقة، ممَّن يدبرون الزمن السياسي، أن الخصم المتعلم خير من خصم تم تفقيره وتجهيله، فالبائس المعدم عندما يثور يأتي على الأخضر واليابس، لأنه لم يستدمج قبلاً في مخياله أن الطريق العام والمدرسة والحديقة وباقي المؤسسات العمومية هي ملك له، وأن له نصيباً فيها.

لقد تشرب الحرمان ومُنِعَ من الإفادة من الخيرات الرمزية والمادية للنسق العام، إلى الدرجة التي بات فيها غريباً في وطنه، لا يتم استذكاره إلا عشية كل كرنفال انتخابي، أو لدى مرور موكب رسمي، ليشارك في تأثيث المشهد، لقاء جنيهات معدودة.

لما اندلعت الثورة الفرنسية لم يتردد البائسون الذين جرى تفقيرهم وتجهيلهم قبلاً، لم يترددوا في القيام بأعمال التخريب وإضرام النار والتصفية الجسدية، وكادت الثورة أن تنزلق نحو سياقات محاكم التفتيش ومطاردة الساحرات، لولا انتصار العقل وتوكيد شعار الحرية والمساواة والإخاء.

اقرأ أيضاً:

وإنّها
لَثورَةٌ ضدّ “تُجّار الطائفية”

فلا يمكن أن ننتظر من المحروم والمهمَّش بسبب سوء الأحوال الاجتماعية والسياسات اللاشعبية، ألَّا ينهب سروال الجينز ذا العلامة الفاخرة من المحل التجاري الذي لم يدخله يوماً، ولا يمكن ألَّا نتوقع تكسيره للشبابيك البنكية والواجهات الزجاجية، وألَّا يرشق الشرطة بالحجارة، ويضرم النار في كل ما يشكل له “خصماً طبقياً” ومبرراً للحقد الاجتماعي أو لاستشعار الظلم و”الحكرة”. فعندما يثور البائسون يكون السيف قد سبق العذل، حينها لا حق لنا في الاستغراب، أو إبداء الامتعاض من يافعين غير متمدرسين، من مدمني المخدرات، وهم يحرقون عربات الشرطة أو ينهبون المحلات التجارية، ما دامت أنظمتنا السياسية تمنع عنهم السكن اللائق والتعليم الدامج والبناء الثقافي والهوياتي المتوازن.

لا حق لنا في إبداء الامتعاض آناً ومستقبلاً من “بؤس” سلوكهم الاحتجاجي، وخروجه من سجل السلمية إلى العنف في بعض الأحيان، إننا في النهاية نمضغ العنب المحصرم، ونظفر بحصاد الهشيم، ما زرعناه عن طريق التهميش والتفقير والتجهيل، وكل ممكنات الرداءة والتتفيه، سنتذوق علقمه حتماً.ولهذافمن الطبيعي أن يحدث ما حدث وما سيحدث، وأن تتواصل الخسارات بصيغ فجة، ولنعترف بأن الخريف القادم الذي يرونه بعيداً ونراه قريباً، لن يكون ممهوراً إلا بتوقيع من جرى تجهيلهم وتفقيرهم، والذين هم نتاج لزمن الأخطاء.هؤلاء هم الذين سيقلبون الطاولة على الجميع، وسينتقمون من مالكي وسائل الإنتاج والإكراه.

بقي أخيراً أن نشير إلى أنه إذا كانت الاستبداديات العربية قد نجحت في اغتيال أو سرقة ربيع الشعوب وتحوير مساراته التغييرية، وذلك في نُسْخَتَيْهِ الأولى والثانية من هذا العقد، فإن القادم عصي على الاحتواء، لأن “أبطاله” القادمين لا يؤمنون أصلاً بالحاجة إلى “العملية السياسية” لتدبير الاختلاف، ما يهمهم بالأساس هو الانتقام وتفريغ شحنات الغضب والحنق، فحذار من ثورة البائسين ضحايا التجهيل والتفقير.فيا مالكي وسائل الإنتاج والإكراه في السردية العربية، تذكروا جيداً أن من يزرع الريح يحصد العاصفة، وأن البائس المُفَقَّر والمُجَهَّل الذي صنعتموه بأجهزتكم الإيديولوجية والقمعية، هو وقود العنف القادم، استثمروا في الإنسان واضمنوا خصوماً أكثر وعياً وإيماناً بالعملية السياسية، وإلا فإن “الثورة” العمياء هي ثمن اغتيال ربيع الشعوب.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

المصدر: TRT عربي



[ad_2]

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى