كيف فضحت تسريبات وثائق فينسين لندن بوصفها مركزاً لغسيل الأموال؟
تركيا الحدث
العدد الأكبر من الشركات الوارد ذكرها في التقارير المشبوهة كانت مسجلة في المملكة المتحدة.
عندما قرر رجال العصابات
الإيطاليون قبل سنوات قليلة أن يسجلوا شركة في المملكة المتحدة لينقلوا تمويلاتهم غير القانونية إليها،
لم يزعج هؤلاء أنفسهم بالكثير من التفاصيل.
سجل هؤلاء شركة باسمMagnolia
Fundaction UK، ورشحوا
مديراً باسم إيطالي هو “إل لادرو دي جالليني”،وتُترجم إلى “لص الدجاج”. وإذا لم يكن ذلك
كافياً، ذكروا أن مهنته “tuffatore”، التي تعني
“محتالاً”.
سجل مدير آخر عنوانه باللغة
الإيطالية، ويُترجم إلى “بناية رقم صفر، شارع الأربعين لصّاً”، في مدينة
“علي بابا” الإيطالية الخيالية.
على مدى السنوات، سلّط
الصحفيون والمنظمات غير الحكومية الضوء على استطاعة الأشخاص تسجيل الشركات في
المملكة المتحدة بكل سهولة، من دون لفت اهتمام المشرعين.
لنضرب مثالاً آخر: كشف
أوليفر بولو، وهو صحفي استقصائي، أوجه الضعف في النظام عن طريق تسجيل شركة باسم
“كروكد كروك كروك ليمتد” أو Crooked Crook Crook Limited (وتعنى شركة المحتال
الملتوي المحتالة المحدودة). لم يُشر بأي شيء إلى اسم الشركة، وحصل على الوثائق
ذات الصلة بعد 36 ساعة.
الوثائق المسربة مؤخراً
لشبكة إنفاذ الجرائم المالية الأمريكية (فينسين)، التابعة لوزارة الخزانة
الأمريكية، سلطت الضوء مرة أخرى على الدور الذي يضطلع به النظام المالي في المملكة
المتحدة في مساعدة الضالعين بغسيل الأموال.
إذ تعتمد التسريبات على
تقارير الأنشطة المشبوهة (SARs)، التي قدمها بعض من البنوك العالمية الرائدة لدى شبكة إنفاذ
الجرائم المالية الأمريكية بين 1999 و2017. وتقدم البنوك تقارير الأنشطة المشبوهة
(SARs) إذا ساورتها الشكوك بشأن عملية يمكن أن تخرق قانوناً، ولا سيما
التشريعات الأمريكية المتعلقة بالعقوبات.
سُجل داخل المملكة المتحدة
أكثر من 3200 شركة، من بين الشركات التي ظهرت في تقارير SARs: أي أكثر من أي دولة
أخرى.
وكان أغلبها شركات وهمية،
إذ إن أي شركة وهمية هي كيان خيالي، تكون موجودة في الأساس على الورق. مع أن بعض
الشركات تستخدمها لأغراض مشروعة، فإنها كذلك تكون بمثابة ممر لإخفاء ثروة غير
شرعية.
تعد الشركات الوهمية في
الغالب طريقة لإخفاء مصدر المال المتحصل عليه من الرشاوى والاختلاس والعمولات
والتبرعات السياسية.
حللت دراسة مشتركة، أجراها البنك الدولي ومكتب الأمم المتحدة المعنى
بالمخدرات والجريمة، 213 فضيحة فساد كبرى، ووجدت أن الشركات الوهمية كان لها دور
بـ70% من القضايا.
لن يكون في ظهور المملكة
المتحدة ظهوراً بارزاً في تسريبات فينسين مفاجأة بالنسبة إلى الخبراء، الذين
أعربوا لسنوات عن مخاوفهم من التشريعات البريطانية المتراخية.
كتب نيكولاس شاكسون في
كتابه Treasure Islands: “النظام الخارجي المعاصر لم يبدأ نموه الهائل في الجزر
المحاطة بالنخيل والملوثة بالفضائح في الكاريبي أو في سفوح جبال الألب في زيورخ أو
جنيف، بل بدأ حياته في مدينة لندن”.
قالت دراسة أعدتها وكالة
الشرطة الأوروبية “يوروبول”، إن أغلب الشركات المذكورة في التقارير
المشبوهة الصادرة عن المؤسسات المالية الأوروبية كانت مستقرة في المملكة المتحدة.
حسب الوكالة الوطنية
المعنية بمكافحة الجريمة في بريطانيا، فإن كمية الأموال التي جرى غسلها عن طريق
إدخالها إلى اقتصاد المملكة المتحدة، يمكن أن تصل إلى 115 مليار دولار سنوياً،
وتلك تقديرات متحفظة.
ومن خلال نقل الأموال عبر عدد
من حسابات الشركات الوهمية في البنوك بآلاف العمليات المتداولة ذهاباً وإياباً،
يصعّب المجرمون على السلطات تتبُّع منابع المال. بجانب أن تنفيذ ذلك عبر شركة
مسجلة في المملكة المتحدة يعطي غطاء من الشرعية على أعمالهم.
وتوجد صناعة كاملة قائمة
على الاستشاريين في المملكة المتحدة، الذين يقدمون عدداً من الخدمات: بدءاً من
تقديم المديرين المرشحين ومروراً بعناوين المراسلات بل ووصولاً إلى “الشركات
الذاتية”، وهي عبارة عن شركات مسجلة بالفعل لكنها غير نشطة.
حسب هيئة الإذاعة
البريطانية BBC، كان نحو 100 شركة من الشركات المذكورة في تسريبات فينسين،
مُسجلةً في عنوان واحد، وهو شقة 2ب في الدور الثاني من بناية 175 شارع داركس لين
بمقاطعة هارتفوردشير شمال لندن.
تعد المملكة المتحدة أحد
أيسر الأماكن التي تسمح بالتجارة والأعمال، وقد صُنفت في المركز الثامن على مؤشر
سهولة ممارسة الأعمال 2020، الصادر عن البنك الدولي. إذ يمكن تأسيس شركة في
المملكة المتحدة برأس مال لا يتجاوز 63 دولاراً، وفي غضون أيام.
وتسهّل التشريعات تأسيس
الشراكات ذات المسؤولية المحدودة، التي لا تتطلب أشخاصاً حقيقيين ليكونوا مالكيها.
إذ إن الشركات المستقرة في الأماكن التي تعد ملاذات ضريبية آمنة مثل سيشل، يمكنها
التحكم بكل سهولة في أي شراكة ذات مسؤولية محدودة.
أجرت المملكة المتحدة على
مدى السنوات، إصلاحات على قواعد تسجيل الشركات، مما يصعب قليلاً إخفاء ملكية هذه
الشركات. ولكن يوجد عدد من الثغرات، وذلك حسبما يقول الخبراء.
بينما سن المشرعون في
الولايات المتحدة قوانين مثل تشريعات ساربينز أوكسلي في أعقاب فضيحة إنرون، لم
تُسَنّ تشريعات من هذا النوع في المملكة المتحدة.
وتاريخياً، سمح البنك
المركزي البريطاني للمؤسسات المالية بأن تصدر تشريعاتها وقوانينها ذاتياً. يأتي
ذلك على النقيض من الأسواق المالية الأمريكية التي تخضع للتنظيم الشديد.
برزت مدينة لندن بوصفها
“جزيرة أجنبية” بعد الحرب العالمية الثانية، عندما بدأت البنوك تجربة
أسواق الدولار الأوروبي، التي سمحت لها بتجنب تشريعات التداول ما دامت تمارس
أعمالها التجارية عن طريق عملات غير الجنيه الإسترليني.
المصدر: TRT عربي