القمة الأوروبية ومستقبل العلاقات مع تركيا
[ad_1]
لهجة التحذير والتلويح بالعقوبات التي وجهها بعض قادة الاتحاد إلى تركيا قد تساهم، كما فعلت مسبقاً، في زيادة تعنُّت اليونان وتصلُّبها في موقفها، وهو أمر لا يساعد في الحل وإنما قد يعقِّد الموقف أكثر فأكثر.
بعد تأجيلها أسبوعاً، عقدت في الأول والثاني من أكتوبر/تشرين الأول الجاري قمة قادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل، التي لم تبعد مخرجاتها كثيراً عما كان متوقعاً.
فقد استطاعت الدول الأوروبية إقناع اليونان بالموافقة على العقوبات الأوروبية على بيلاروسيا، التي شملت عشرات المسؤولين البيلاروس، فيما عُدَّ رضىً يونانياً عن لهجة التضامن الواضحة معها من القمة بخصوص ملف شرقي المتوسط.
في المقابل، وبشكل أهم، لم تشمل مخرجات قمة قادة الاتحاد الأوروبي أي عقوبات مباشرة على تركيا، حتى تلك الرمزية منها، بل دعتها للحوار، إذ قال بيانها الختامي إنه لدى الاتحاد الأوروبي “مصلحة استراتيجية في إيجاد بيئة مستقرة وآمنة في شرقي المتوسط وعلاقة تبادل المنفعة مع تركيا”.
وقد أطلق القادة الأوروبيون “أجندة أكثر إيجابية” للتعامل مع أنقرة، تركز على “عصرنة الاتحاد الجمركي وتسهيل التجارة والتقارب بين الشعوب وعقد حوارات عالية المستوى، إضافة إلى استمرار التعاون بشأن قضايا الهجرة”، كما دعوا تركيا إلى “وقف الأعمال أحادية الجانب” في شرقي المتوسط.
أقرأ أيضا:
في
ليبيا .. لماذا على الأوربيين شكر تركيا بدلاً من إلقاء اللوم عليها؟
وبذلك، لم توقّع القمة أي عقوبات على أنقرة، وهو ما كان متوقعاً، إذ حالت دون الأمر عوامل عدة، بعضها متعلق بالاتحاد الأوروبي نفسه، وبعضها الآخر بالعلاقات مع تركيا، فضلاً عما هو متعلق بأزمة شرقي المتوسط نفسها.
يدرك الاتحاد الأوروبي أن السردية اليونانية المتعلقة بالجُزُر ليست محقة وأن ما تطالب به تركيا بخصوص ترسيم الحدود البحرية بشكل منطقي وعادل له وجاهته.
كذلك فإن تركيا قدمت أكثر من مبادرة لإظهار حسن نواياها، بدءاً من تعاطيها الإيجابي مع الوساطة الألمانية ثم مبادرة حلف شمال الأطلسي (الناتو) وقبول فكرة الحوار مع اليونان، مروراً بتراجع حدة التصريحات وسحب سفينة “عروج رئيس” نحو الشاطئ، وانتهاءً بالتوصُّل معها إلى اتفاق حول “مبادئ عامة” وآلية لفض النزاع مؤخراً، بما عزز موقفها قبيل القمة.
من جهة أخرى، يعلم قادة الاتحاد أن العقوبات ليست أداة فاعلة في تغيير سلوك الدول، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، كما أن جمود ملف التفاوض مع تركيا للانضمام إلى الاتحاد يضعف من وجاهته عليها، وبالتالي يقلل من قدرته على التأثير على قراراتها. تُضاف إلى ذلك جملة المصالح والمهددات التي تجمع بين الطرفين، وخوف بروكسل من أن يؤدي الضغط المستمر والمتزايد على أنقرة إلى ترسُّخ تقارُبها مع موسكو وتعمُّقه.
وأخيراً، ساهمت رغبة الاتحاد وخصوصاً ألمانيا في الإبقاء على إمكانية لعب دور الوساطة مستقبلاً، وتوجُّس ميركل من مساعي ماكرون لقيادة الاتحاد، والتفاوت الأوروبي في تقييم دور أنقرة في التصعيد بين أذربيجان وأرمينيا، ساهم كل ذلك في عدم تبلور موقف اوروبي موحد من تركيا، بما أفشل سيناريو العقوبات ووأده في مهده.
هذا على صعيد المضمون. أما على صعيد الأسلوب، فقد لوّح أكثر من مسؤول أوروبي بورقة العقوبات مستقبلاً من باب أن تركيا في فترة اختبار نوايا حتى القمة القادمة في ديسمبر/كانون الأول المقبل التي ستقيّم العلاقات معها.
اقرأ أيضا:
فقد حذّرت رئيسة المفوضية الأوروبية من “استخدام جميع الأدوات المتاحة لنا” إن استمرت أنقرة في أعمالها الأحادية، مهددة بفرض عقوبات عليها إذا واصلت “استفزازاتها”. كما رأى رئيس المجلس الأوروبي أن “أنشطة تركيا تتعارض مع القانون الدولي”، متحدثاً عن سياسة “تجمع بين الحوار والصرامة” معها.
وفي مقابل كل ذلك، وباتجاه عكسي، دعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لحل النزاع في شرقي المتوسط بالوسائل الدبلوماسية، ورأت أن “من مصلحة الاتحاد الأوروبي تطوير علاقة بناءة مع تركيا على الرغم من كل الصعوبات”.
هذه الرسالة الأوروبية المزدوجة التي حملت معنيَيْ الحوار والتهديد بالعقوبات، ردت عليها تركيا برسالة مزدوجة كذلك من خلال بيان وزارة خارجيتها الذي تحدث عن “بعض المواد الإيجابية” وكذلك عن مواد “منفصلة عن الواقع”.
وقد أكّد البيان رغبة أنقرة في تعزيز علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، ولكنه رأى أن خطاب العقوبات (التلويح بها) “غير بنّاء ولا يمكن أن يأتي بحل”، منتقداً ما عدَّه “تضامناً أعمى” مع أعضاء الاتحاد.
في العموم، يمكن القول إن قمة قادة الاتحاد الأوروبي قد اختارت تأجيل البت في موقفها من أزمة شرقي المتوسط لثلاثة أشهر قادمة، لا يتوقع أن تحمل جديداً أو تغيراً جذرياً فيها. ذلك أن تركيا وإن قدمت بوادر حسن نية فإنها لم تتنازل عن سرديتها وحقوقها، كذلك فإن الحوار بينها وبين اليونان لن يبدأ مباشرة ولا تُنتظر منه مخرجات مثمرة قريباً.
الأهم من كل ما سبق أن الاتحاد الأوروبي ماهَى بين أمرين يفترض أنهما منفصلان على غير مصلحة له بذلك. فقد ربطت مخرجات القمة العلاقات التركية-الأوروبية ومسار الأزمة بين أنقرة وأثينا إلى حد كبير جداً، على الرغم من أن العلاقات بين الأولى والاتحاد الأوروبي كثيرة ومتشعبة وقديمة ويتخللها الكثير من المصالح والمهددات المشتركة، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً واستراتيجياً.
كما أن ربط العلاقات بأزمة مرشحة للاستمرار من دون حل على المدى المتوسط على أقل تقدير مؤشر على خضوع الاتحاد لبعض الضغوط، لا سيما من قبل فرنسا واليونان، إذ كانت الأولى في مقدمة المحرضين على تركيا، بينما هددت الثانية بعدم تمرير قرارات القمة الخاصة ببيلاروسيا إن لم يستجب الاتحاد لمطالبها.
في الخلاصة، خرجت مقررات قمة قادة الاتحاد بخصوص أزمة شرقي المتوسط كما كانت متوقعة، وكانت كذلك معتدلة ومتوازنة إلى حد كبير بالمقارنة مع الخطاب المتشنج في بدايات الأزمة. بما يعني أن الاتحاد أدرك الحاجة إلى علاقات أكثر توازناً وندية مع أنقرة، وهو أمر يُبقي للاتحاد، وخصوصاً ألمانيا، فرصة للتدخل والتوسط مجدداً في الأزمة، ويحفظ مستوى معيناً من العلاقات والتعاون مع أنقرة.
اقرأ أيضا:
إلا أن تركيز الاتحاد على بعض نتائج الأزمة وارتداداتها مثل بعض التصريحات والتصرفات هنا وهناك وليس جوهر المشكلة، وتأجيل إظهار موقف واضح ونهائي منها، يبقي على علامات الاستفهام القائمة على مستقبل العلاقات بين أنقرة وبروكسل وما تريده الأخيرة منها على المدى البعيد.
كما أن لهجة التحذير والتلويح بالعقوبات التي وجهها بعض قادة الاتحاد إلى تركيا قد تساهم، كما فعلت مسبقاً، في زيادة تعنُّت اليونان وتصلُّبها في موقفها، وهو أمر لا يساعد في الحل وإنما قد يعقِّد الموقف أكثر فأكثر. ومن أهم مؤشرات ذلك أن أثينا لم تنتظر أكثر من يوم واحد فقط لتطلق إنذارَيْن بحريين (NAVTEX) لإجراء مناورات عسكرية في مناطق تَعدُّها تركيا لها، وهو ما ردت عليه الأخيرة بإنذار مقابل، ما يعني أن الوضع مرشح للعودة إلى المربع صفر.
ويعني كل ذلك أن هدوءاً نسبياً ومؤقتاً فقط سوف يسود بين تركيا والاتحاد، لكن مع بقاء أرضية التوتر والتوجس بين الجانبين. فإذا ما أضيفت إلى ذلك سياقات شبيهة في مسار العلاقات التركية-الأمريكية مؤخراً، يمكن القول إن تركيا ترى نفسها مدفوعة للتقارب مع روسيا والتفاهم معها أكثر فأكثر، خصوصاً أن القضايا والملفات ذات الاهتمام المشترك كثيرة ومتداخلة من سوريا إلى ليبيا إلى شرق المتوسط إلى القوقاز.
وهو أمر سيبقي السياسة الخارجية التركية في المنطقة الرمادية بين الغرب (الأمريكي والأوروبي) والشرق (الروسي) ومحاولة استثمار خلافاتهما وتناقضاتهما، مع استمرار الحيرة التركية بين المسار الاستراتيجي مع الحلفاء التقليديين المتجاهلين لحقوقها ومصالحها والمسار التكتيكي مع الأصدقاء الجدد المستثمرين لذلك والمتفهمين لها. مع ملاحظة أن استمرار التوجهات نفسها في كل من واشنطن وبروكسل يعمّق مع الوقت التقارب التكتيكي ويمنحه الكثير من عوامل البقاء والديمومة، بل والتطور.
يدفعنا كل ما سبق إلى القول إن الاتحاد الأوروبي وتركيا لا يزالان، وفق الظاهر، بعيدَيْن عن حوار استراتيجي مطلوب وضروري لهما، لبحث مستقبل العلاقات البينية بمنظور استراتيجي يصب في مصلحة كليهما. وإذا كان مطلوباً من تركيا، وفق الاتحاد الأوروبي، أن تقدم على عدة خطوات باتجاهه، فإنه كذلك مُطالَب بالتعاطي معها بشكل مختلف، إذ يبدو واضحاً أن الرؤية والأسلوب والأدوات السابقِة لم تعد مفيدة اليوم.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.
المصدر: TRT عربي