الصراع الأذربيجاني الأرميني.. وتغيّر التوازنات الدولية
[ad_1]
مساندة تركيا لأذربيجان تصبّ لمصلحة أنقرة، فالحكومة تُدرك أن هناك علاقة خفية بين مناطق النزاع في ليبيا وسوريا والمتوسط وأذربيجان وأنها تخوض معارك من أجل الحفاظ على مصالحها هناك، لتعزيز تطورها الذي يريد كثيرون عرقلته عبر إشغالها بصراعات جانبية.
الحرب الأذربيجانية الأرمينية ليست مجرد نزاع بين دولتين صغيرتين، كانتا من قبل تنتميان إلى منظومة الاتحاد السوفييتي التي فرط عقدها عام 1991، بل هو نزاع يكثّف صراعات غير مباشرة بين قوى دولية مختلفة، هذا الصراع يكشف عن تبدلات عميقة في التوازنات الدولية حيث تشتعل هذه الحرب قرب دولتين تخشيان امتدادها، وهو ما يزيد من مشاكلهما، ونقصد بالدولتين روسيا وإيران.
كذلك لا يمكن إغفال أن حلقة الصراع الجارية في إقليم ناغورني قره باغ، هي واحدة من حلقات صراع مترابطة بصورة غير مباشرة تحدث في كلٍ من سوريا ومياه شرق المتوسط وليبيا، وغيرها من نقاط التماس والتوتر، وهو أمرٌ يواجه الدولة التركية التي تُدرك أن هناك جهات دولية عديدة تريد إشغالها بمواجهات متعددة، خوفاً من النمو المطرد لقوة هذه الدولة اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، ليس إقليمياً فحسب بل على الصعيد الدولي.
إن مقدمات مساندة تركيا لأذربيجان في حربها مع أرمينيا تستند إلى اعتبار إقليم ناغورني قره باغ إقليماً أذربيجانياً احتلته أرمينيا عام 1992. هذا الإقليم ليس مجرد منطقة جغرافية عادية، بل هو مركز تفرعات طريق الحرير القديم، الذي يعتبر مركز تبادل ومرور التجارة الدولية بين أوروبا وآسيا.
أقرأ أيضا:
ما دوافع أرمينيا في اعتدائها الحالي على سيادة
أذربيجان؟
إن الروس الذين يعتبرون حماةً لأرمينيا، قال زعيمهم فلاديمير بوتين: “إن القتال بين أرمينيا وأذربيجان لا يعتبر عدواناً على أرمينيا لأنه يجري في إقليم ينتمي لأذربيجان، ولهذا لم تتهدد أراضي أرمينيا لندافع عنها”. هذا الكلام ليس تهرباً روسياً من الدفاع عن حليفته أرمينيا، بقدر معرفة الروس أن تورطهم في ناغورني قره باغ يعني تقديم خدمات مجانية للغرب، حيث إن روسيا لا تزال تحاول حماية حليفها ألكسندر لوكاشينكو في روسيا البيضاء، الذي خرج الشعب يريد إسقاطه بعد تزويره للانتخابات، وبعد حكم مستمر منذ 26 عاماً.
كذلك فإن بوتين لا يزال يواجه اتهامات غربية بشأن شبه جزيرة القرم، وبشأن تسميم روسيا للمعارض أليكسي نافالتي، الذي تقول ألمانيا إنه تمّ تسميمه بغاز نوفيتشوك الخاص بالأعصاب.
إن بوتين لا يريد مواجهة مع تركيا في ناغورني قره باغ فهو سيخسر بهذه المواجهة جسراً حيوياً يوصل غازه عبر خط الغاز ترك ستريد إلى أوروبا، ومثل هكذا مواجهة ستزيد من أعباء روسيا الاقتصادية وعزلتها نتيجة عقوبات الغرب، إضافة إلى أن الروس لم يستطيعوا مع فرنسا والولايات المتحدة، في مجموعة الوساطة الدولية “مينسك”، أن يقنعوا أرمينيا بالانسحاب من ناغورني قره باغ ومن سبع مناطق أذربيجانية احتلتها أرمينيا عام 1992.
الروس كذلك، ومثلهم إيران لا تريد أن تتوسع الحرب في هذا الإقليم، خشية انتقال شراراتها إلى مناطق أخرى في المنطقة، مما يشكّل تهديداً حقيقياً على استقرار الدولتين الروسية والإيرانية.
الإيرانيون انقسموا إلى رؤيتين مختلفتين على مستوى الحكم، فالمرشد الإيراني علي خامنئي قال: “إن إقليم قره باغ أرض إسلامية، ويجب الدفاع عنها، والتصدي لغير المسلمين ممَّن يعملون على السيطرة عليها”. هذا الموقف من خامنئي يتعارض مع توجه حكومة حسن روحاني التي تريد الوقوف على الحياد.
الحياد الإيراني يعني إبقاء إيران خارج الصراع حول إقليم ناغورني قره باغ، وهذا أمر صعب التحقق، فلو أردنا معرفة ديانة السكان في أذربيجان فيجب أن يقف الإيرانيون مع شركائهم بالديانة الشيعية، فكيف يدعم بصورة غير علنية حسن روحاني وحكومته أرمينيا على حساب شركائه دينياً؟
الإيرانيون يدعمون أرمينيا لمصالح اقتصادية تخصهم، معبرها أرمينيا، في ظل الحصار ونظام العقوبات الدولي المفروض عليهم، حيث تلعب يريفان عاصمة أرمينيا دور ممر تجاري تستفيد منه طهران، ويخافون في الوقت ذاته من تمردات داخلية لمجموعات سكانية منها أرمنية ومنها أذربيجانية، ولهذا فهم في موقف لا يحسدون عليه، ويخافون من تطوره، ولهذا يريدون وقف الحرب والادعاء بالحياد بين الطرفين المتنازعين.
إن الروس الذين يعتبرون القوقاز حديقتهم الخلفية لم يحاولوا أن يتذكروا أن سوريا التي يتدخلون في شؤونها هي مجال حيوي تركي منذ مئات السنين، ولهذا فهم يتجنبون مواجهة مع تركيا، خشية خسائر إضافية تلحق بهم وتزيد من مشاكلهم، وهم يعرفون حق المعرفة أن الحرب الأذربيجانية لتحرير ناغورني قره باغ هي حرب مشروعة لتحرير أرض يحتلها الأرمن.
لكن ما موقف أوروبا والولايات المتحدة من هذه الحرب؟ ربما كان الغرب يميل بالمعنى البراغماتي إلى توسع الصراع الأذربيجاني الأرميني، ليصير مواجهة عسكرية بين روسيا وتركيا، وهذا يعني انفضاض العلاقات الحسنة بين هاتين الدولتين، وإضعاف كلتيهما بمعنى دفع كلف هذه الحرب، ولكن السياسة التركية بدت حازمة وحاسمة، إذ أيّدت بشكل واضح وجلي الحق الأذربيجاني باستعادة ناغورني قره باغ والمناطق الأذربيجانية التي تحتلها أرمينيا، الموقف التركي يحتمي دولياً بموقف الأمم المتحدة التي لا تزال تعتبر الأراضي في ناغورني قره باغ أراضي أذربيجانية.
إن موقف الدولة التركية المساند لأذربيجان يصبّ لمصلحة تركيا، فالحكومة التركية تُدرك أن هناك علاقة خفية بين مناطق النزاع في كل من ليبيا وسوريا ومياه المتوسط وأذربيجان، وأنها تخوض معارك سياسية ولوجستية من أجل الحفاظ على مصالحها في هذه المناطق، من أجل تعزيز تطورها الذي يريد كثيرون عرقلته من خلال إشغالها بصراعات جانبية.
اقرأ أيضا:
لماذا
تعجز مجموعة مينسك عن التعامل مع صراع أرمينيا وأذربيجان؟
إن الروس وفق المنظور الذي قاربناه لن يتورطوا بحرب مع تركيا في القوقاز، والجهات التي تحاول تعميق النزاع في تلك المنطقة لن تستطيع تحقيق مآربها في هذا الاتجاه، لذلك سيغمض الروس أعينهم عن تقدم الأذربيجانيين في عملية تحرير أراضيهم، ليتدخلوا بمساعدات دولية على عقد مؤتمر سلام يعترف بأن الإقليم المتنازع عليه هو أذربيجاني، وبناء عليه يتم ترسيم حدود دولية بين أرمينيا وأذربيجان لم ترسمها من قبل حكومة السوفييت.
كذلك الأمر بالنسبة إلى إيران، فالوضع التركي أكثر استقراراً سياسياً وأكثر قوة عسكرية واقتصادية مقارنة بوضعها الذي يعاني من نظام العقوبات، وهي لن تتورط في مساندة علنية لأرمينيا التي تمرر تجارتها معرفة منها أن تركيا صمام أمان يمنع اختناقها إلى النهاية بالعقوبات.
إن التوازن الدولي بعد انتهاء حرب ناغورني قره باغ لن يبقى على حاله، فهذا التوازن يميل أصلاً لمصلحة توسع الدور التركي في تغيير معادلات الهيمنة والسيطرة، التي سادت المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتحديداً توضحت بعد سقوط المنظومة السوفييتية.
ناغورني قره باغ اختبار قوة حقيقي أثبت أن الأمور تسير خارج مشيئة قوى دولية تريد استمرار دورها في السيطرة والتحكم بمصير البلدان الأخرى، وهذا يعني أن تركيا ودورها السياسي والاقتصادي سيكون دوراً مختلفاً، إذ إنه يتقدم باعتباره قوة سياسية واقتصادية وعسكرية، تنمو بسرعة لتحتل موقعاً يعرف الجميع أنه سيغيّر قواعد اللعبة الدولية السابقة.
هذا الموقع الذي ستحتله تركيا سيدفع المنخرطين بصراعات الحلقات الأخرى إلى إعادة برمجة مواقفهم، بما لا يحرجهم سياسياً وعسكرياً، في منطقة تشهد ولادة قوة دولية جديدة.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.
المصدر: TRT عربي