“القدس السليمانيّة”.. بعضٌ من إنجازات سليمان القانوني وآثاره في القدس
[ad_1]
عُرف عن السلطان إلى جانب اهتمامه بالقوانين المستمدة من الشريعة السمحة، اهتمامه بالعمارة والبناء وما يتصل بها من تسهيل لشؤون الناس وأمور حياتهم. وقد شهدت مدينة القُدس في عهده اهتماماً مميزاً.
يُعدّ السلطان سليمان القانوني (ت 974ه/1566م) واحداً من أبرز سلاطين
العثمانيين، لما تركه من منجازاتٍ حضاريّة وفتوحاتٍ ضخمة، إضافةً إلى إصلاحاته
الداخليّة، التي أسبغت عليه لقب القانونيّ، ومما عُرف عن السلطان إلى جانب اهتمامه
بالقوانين المستمدة من الشريعة السمحة، اهتمامه بالعمارة والبناء وما يتصل بها من
تسهيل لشؤون الناس وأمور حياتهم. وقد شهدت مدينة القُدس في عهده اهتماماً مميزاً،
لا سيما أن مدة حكمه كانت طويلة وأسهمت في تسجيل العديد من المنجزات الحضارية في
أرجاء إمبراطوريته.
ويورد الرحالة الشهير أوليا جلبي، نصاً لطيفاً حول سبب اهتمام
السلطان بالمدينة، في سياق حديثه عن القدس عندما زارها عام 1082ه/1672م، وبعيداً
من صحة النص أو وروده في مصادر تاريخيّة أخرى، يُضفي طابعاً مقدساً لهذه العناية
السلطانية، إذ يتحول إلى أمرٍ نبويّ لا يمكن إلا تطبيقه، فيقول جلبي:
“في عام 926هـ/1521م اعتلى السلطان سليمان العرش، وفتح قلعة
بلغراد (عاصمة صربيا) عام 927هـ/1521م، وجزيرة رودس عام 928هـ/1522م، وجنى من ذلك
ثروة طائلة، وعندما غدا ملكاً مستقلاً ظهر له النبي في ليلة مباركة وقال له: يا
سليمان، سوف تحقق انتصارات كثيرة، ويجب عليك أن تنفق الغنائم على تزيين مكة
والمدينة، وعلى تحصين قلعة القدس لتصد الكافرين إذا حاولوا احتلالها خلال حكم
خلفائك، وعليك أيضاً أن تُزيّن حرمها بحوض للماء، وأن تمنح دراويشها مخصصات مالية
كل عام، وعليك أيضاً أن تُزين صخرة الله وأن تعيد بناء مدينة القدس”.
وبعيداً عن هذا النص، شكّل الاهتمام بالقدس إلى جانب مكة والمدينة،
فضيلة عظيمة، يتسابق الخلفاء والحكام والسلاطين إليها، فكيف بواحدٍ من أعظم القادة
والحكام في التاريخ؟ وقد وصلت الدولة العثمانية إبان حكمه إلى أوج قوتها واتساعها
وعظمتها إذ رسخ الإمبراطورية كقوة عالمية لا يمكن الاستهانة بها. وحول هذا
الاهتمام السليماني بمدينة القدس، نورد في هذا المقال بعضاً من إنجازات السلطان
سليمان القانوني وآثاره في المدينة، من النواحي العمرانية والوقفية والمشاريع
العامة، وما نورده هنا جزءٌ يسير من سيرته.
تجديد عمارة المسجد
الأقصى
من أجلّ الأعمال التي سُطرت في سجلّ اهتمام السلطان سليمان بالمدينة
عنايته بالمسجد الأقصى المبارك، ففي عام 935ه/1528م تمت أول عملية لترميم مصلى قبة
الصخرة، إذ تم تجديد 36 شباكاً مزخرفاً بالقطع الزجاجية. وفي عام 949ه/1542م، أمر
السلطان بتجديد عمارة قبة الصخرة، وبنى فيها 16 شباكاً من الزجاج المذهب.
وبدأت أعمال كسوة المبنى
المثمن الذي يحمل القبة، فكسيت بالقيشاني الأزرق المهيب، الذي اشتهرت به مساجد
إسطنبول، وما بين أعوام 957ه/1550م و969ه/1561م، زُينت القبة بآلاف من قطع
القيشاني، وتُشير المصادر إلى أن تكلفة هذه القطع، وغيرها من أعمال بلغت نحو 97
ألف أقجة. وفي سياق أعمال الترميم، أمر السلطان بتصفيح ثلاثة من أبواب قبة الصخرة،
وجدد في عمارة مجمل أبواب الأقصى وسوره وتمت هذه التجديدات ما بين عامي 571ه/1563م
و572ه/1564م.
ويُشير الرحالة أوليا جلبي إلى المعماريين والفنانين الذين عملوا على
ترميم القبة، ويتحدث عن الخطاط أحمد قره حصاري (ت963ه/1556م)، الذي زين الفسيفساء
الموضوعة خارج المبنى بخطه، وهو الخطاط نفسه الذي عمل في واحدٍ من أجمل مساجد
عاصمة الدولة العثمانية مسجد السليمانية، ويربط جلبي بين المعماري الكبير سنان
باشا (ت 996ه/1588م)، والترميمات التي نفذت في الأقصى والقدس.
وبحسب جلبي بقيت أعمال الترميم والتزيين في المسجد نحو 40 سنة. ويورد
الدكتور بشير عبد الغني بركات في كتابه “القدس الشريف في العهد
العثماني” عن الرحالة جلبي ملاحظة بديعة تصف الحالة الجمالية التي وصل إليها
المسجد: “ولما كان السلطان العثماني في هذا الزمان هو أكثر حكّام العالم
تشريفاً واحتراماً.. فقد جعل من هذا الصرح جنّةً لا مثيل لها على الأرض، لأنّ
السلطان وحده هو القادر على أنْ يكون مالكاً لبيت الله”.
تأمين الحاجات الأساسية
لسكان المدينة
لم يكن اهتمام السلطان سليمان محصوراً بالبناء والعمارة فقط، بل عمل
على حل مشاكل القدس وحاجات الناس الأساسية فيها، إذ تذكر دراساتٌ حديثة للتاريخ
العثماني في مدينة القدس، أن السلطان القانوني خصص أموالاً طائلة لبناء المنشآت
وجر المياه إلى القدس، إذ ربط المدينة بالبرك التي تعرف باسمه “برك
سليمان”، وأوقف على هذه المنشآت العديد من الأوقاف لصيانتها وعدم تعطلها،
وبنيت في عهده بركة قرب باب الخليل عام 943ه/1536م، وجرى إيصال المياه من البركة
إلى الأسبلة التي أقيمت داخل الأقصى، ومنها تفرعت إلى أرجاء المدينة، حيث أنشئت
الأسبلة عند تقاطعات الطرق، عبر أقنية حجرية محفورة.
وإضافةً إلى المياه، عُنيت السلطات العثمانية بتوفير الإمدادات
الغذائية للمدينة، ففي عام 960ه/1552م، أمر السلطان واليه في الشام، أن يوفر حاجات
القدس من الحبوب، على أثر تعرض المنطقة لموجة من الجراد، أدت إلى إتلاف المحاصيل،
وتزايد حاجات السكان إلى المؤن. ويمكن أن يسأل أحد القراء، أن هذا الفعل طبيعيّ،
بل هو من واجبات السلطان. وهو تساؤل محق، ولكن الإشارة الخفية في الحادثة، أنها
صادرة عن السلطان مباشرة، ولم تكن مبادرةً من واليه على القدس أو على دمشق أو
غيرها من ولايات الشام الأخرى، ما يدلل على وضع القدس تحت إشراف السلطان المباشر،
واهتمامه بها بنفسه، على الصعد كافة.
بين حفظ الأمن وحفظ
المشاعر
ومن أروع الأمثلة التي تبيّن العناية السلطانية الفائقة بالقدس، ما
أورده أحمد حسين الجبوري في كتابه” القدس في العهد العثماني (1516-1640)”،
أن السلطان منع الإنكشارية من الدخول إلى المدينة، لما عُرف عنهم من الشدة
والغلظة، ففي عام 944 ه/1537م، أصدر فرماناً يمنع الانكشارية من الدخول إلى القدس،
وأنشأ وحدة مميزة منهم، يُنتقى عناصرها بعناية، أوكل لهم مهام حفظ الأمن في
المدينة. وكانت أبواب المدينة تُفتح يومياً عند شروق الشمس وتُغلق عند غروبها، ولم
يكن يُسمح للأجانب بدخول المدينة إلا بإذن مسبق يحصلون عليه، ما يستدعي المزيد من
الأمن، وغياب القلاقل والنزاع عنها.
وتُظهر المعطيات أن هاجس حماية القدس كان ملازماً للسلطان القانوني،
فبعد انتهاء أعمال ترميم المسجد الأقصى، أمر السلطان بتجديد بناء قلعة القدس، التي
تهدمت منذ أوائل القرن 9 ه/15م. تمت أولى مراحل الترميم والبناء في القلعة في عام
938ه/1531م، إذ أضيف إلى بنائها الأصلي ممرٌ في جهتها الشرقية، وفي عام 939ه/
1532م، تم الانتهاء من المرحلة الثانية.
سور القدس معلم المدينة السليمانيّ
ومع تعزيز أمن المدينة عبر إعادة بناء القلعة، كانت المدينة تعاني
ضعفاً آخر، وهو تدمير سور المدينة، ما يجعلها عرضة للأخطار من دون أي حماية لها،
فقد بقيت المدينة من دون سور، قرابة ثلاثة قرون. وفي عام 944هـ/1537م، أمر السلطان
سليمان ببناء سورٍ جديد للمدينة، وأنجزت هذه المهمة في أربع سنوات، وهو إنجازٌ
كبير من النواحي العمرانية والهندسية، وقد تتبع البناؤون أساسات السور الذي بناه
الأيوبيون، وبلغ طوله نحو 4 كلم، ويُشير الدكتور بشير بركات إلى أن بناء السور، لم
يكن لمواجهة أخطار خارجية فقط، بقدر بناء معالم تاريخيّة تخلد اسم بانيها، إضافة
إلى أنها تمنح القدس، نمطاً من الحكم الذاتي، وهو ما فقدته منذ سنوات طوال.
رعاية المسيحيين مقيماً كان أم زائراً
وعُرف عن الدولة العثمانية معاملتها السمحة مع أتباع الأديان الأخرى،
وهي سماحة مرتكزة إلى أحكام الشريعة الإسلامية، وتذكر المصادر التاريخيّة أن
السلطان القانوني سمح لكنيسة مرقد عيسى بوضع الأجراس داخلها، إذ كانت حتى عام
952ه/1545م خالية منها. وتمتعت الكنائس المسيحية برعاية الدولة العثمانية، فقد سار
العثمانيون بتطبيق أحكام الشريعة الغراء، ونظموا شؤون حج المسيحيين إلى القدس،
وأمنوا الحماية خلال إقامتهم، بل بلغ اهتمام العثمانيين بالطوائف المسيحية، حدّ
التدخل لفض النزاعات بينهم، ومحاولة تقريب وجهات النظر.
اقرأ أيضاً:
الأسبطة
تراث عثماني إسلامي مازال حاضراً وشاهداً على الحضارة العثمانية
وإلى جانب هذه الإنجازات، شهدت القدس موجة عمارة وبناء ووقف لم تشهد
لها المدينة مثيلاً، من بناءٍ للربط والخانقاه والمساجد والحمامات وغيرها، ومن
أعظم الأوقاف التي ما زالت صامدة حتى يومنا، وقف زوجة السلطان سليمان المعروف بوقف
“تكية خاصكي سلطان”، التي بنتها زوجته “حُرُّم”، فقد أوقفت
عليه السلطانة أوقافاً كثيرة، في القدس ونابلس وغزة وطرابلس الشام، وكان مبنى
التكية عظيماً، وعدد موظفيها 50 موظفاً، ويقدم مطبخها مئات الوجبات يومياً، إلى
جانب العديد من الخدمات للفقراء والمساكين.
هذه قبساتٌ قليلة من واحدٍ من أعظم سجلات التاريخ، فقد عادت القدس في
عهد القانوني إلى سابق عهدها، من ألق وتميز واهتمام، وشكلت العناية السلطانية بها،
نموذجاً متكرراً من العناية بواحدة من درر المدن الإسلامية، ما يدفعنا مجدداً إلى
تأكيد الحقيقة التاريخيّة الساطعة، وهي أن الاهتمام بالقدس والمحافظة عليها وصون
معالمها ووجودها، يسطر اسم فاعله بسجلات الخالدين، أما من يبيع القدس ويتآمر
عليها، سيُلقى في مزابل التاريخ، وسيُنسى مهما بلغ سلطانه، وقوته ومجده.
المصدر: TRT عربي