فرنسا والإسلام والعنف الآيديوديني.. تأويلات أم أنانيات قاتلة؟
[ad_1]
فرنسا والإسلام والعنف الآيديوديني، ضمن هذه الثلاثية إذاً يمكن تدبير مسالك الفهم في البدء والختام، لنعي جيداً أنه صراع أنانيات قاتلة، بدل أن يكون محور تأويلات عقلانية مُثْرِية للفهم والتعايش والبناء الحضاري للمشترك الإنساني.
إلى أين يمضي العالم بجنونه؟ ألم يستوعب بعد صفحة الفيروس التاجي؟ ألم يستلهم دروس الخطر والمخاطرة؟ فإلى أين نحن ماضون بهذه الهويات، أو بالأحرى الأنانيات القاتلة؟ ومن يصبّ زيت الكراهية على نار الجهل والتجهيل؟
ففي الوقت الذي بات فيه العالم يتوسد حزنه وخوفه، من موجة ثانية للفتك الكوروني، ستبحث جريدة “شارلي إيبدو” الفرنسية عن “البوز” مرة أخرى، وستنخرط في ازدراء الأديان ومن داخل بلد الأنوار، وبالطبع فإن ممارسة كهذه ستقود إلى إذكاء الحنق لدى التيار الآيديوديني المتطرف، لينتقم قتلاً وإرهاباً، وهو ما سيشعل نار العنصرية والكراهية لدى اليمين المتطرف، لتتواصل الدفاعات والهجومات في السجل التداولي الإسلامي، ما بين حملة مقاطعة للمنتجات الفرنسية وتوكيدات لضرورة الحوار بين الثقافات والأديان.
ففي ظرف أسبوعين تسارعت الأحداث والوقائع ما بين ازدراء للرموز الدينية وتقتيل للأبرياء ومقاطعة اقتصادية وعنف آيديوديني وخطاب ضاجّ بالعنصرية والكراهية، تواصل الشريط “الحضاري” بيومياته المقيتة مذكراً الجميع بأن ناراً تحت الرماد، تنتظر ريحاً لتشعلها من جديد، وتؤكّد أن دروس كورونا لم تُستوعب جيداً، وأن الانغلاق الهوياتي مترسخ في مختلف الذهنيات، وإن كانت تعلن الانتماء إلى فكر الأنوار، فالشوفينية، وبما هي تَمَاهٍ لكل واحد مع “الجهة” التي ينتمي إليها، انتصاراً لثقافته الخاصة وخوفاً عليها من خطر محدق، يراه حتماً في الآخر، فبما هي كذلك، فإنها تحيل إلى مركزية عرقية تتوزع على مختلف الانغلاقات الدينية والثقافية والسياسية والاجتماعية.
لنعترف بأن الممارسات الآيديودينية العنيفة ليست إلا ممارسات انتقامية تردّ بها الأقليات الدينية في مجتمع ما، على ما يستهدفها من تهميش وإقصاء، كما أنها تعبّر عن “سوء تدبير” لإشكالية الحوار بين مكونات المجتمع، فعندما يسود الصمت بين هذه المكونات، فإن “الاحتراب” والعنف لا ينتهيان، وإنما يتحينان الفرص للظهور، وهو ما لاحظناه في الأحداث الأليمة التي شهدتها فرنسا مؤخراً.
عندما نحاول فهم ما حدث وما سيحدث، علينا الانتباه لثلاثة حقول دلالية، تفسّر وتؤول الجاري من أحداث وعلاقات، وهي: العنف الآيديوديني، والتأويل الديني، ثم الشرط الإنساني. ففي الحقل الأول، وبحثاً عن شجرة نسب ما حدث ويحدث، فلا بأس من التذكير بأن العنف الآيديوديني هو سبب ونتيجة في الآن ذاته، وأنه يستجمع في تاريخه ومساراته فهماً خاصاً للدين والتديُّن، بل وتأويلاً ملتبساً لمقاصد الشريعة، وهو بذلك محكوم بأجندات تأويلية، تتغذى على فُهُومٍ قاصرة، وتستغلّ وضعيات سوسيوسياسية ملتبسة بدورها، لتأكيد حضورها وإعلان فارقيتها. وعليه فإن هذا العنف الآيديوديني سيستمر في الهُنا والهُناك، وتحت راية مختلف الأديان، ما دامت شروط التعايش والحوار مؤجَّلة في السياق العولمي.
وبخصوص الحقل الثاني المرتبط بالتأويل الديني، فذلكم ما يشكّل أصل المشكلة، وفي العالم الإسلامي بدرجة أكبر، فالدين لا يسلم، وفي كثير من الأنساق، من التوظيف الآيديولوجي في حلبة الصراعات المجتمعية، ما يجعله بيد الشارح الذي يدبر الحقل الرمزي للدين والتدين، وبيد النص الشارح، الذي يتفرع عن سلطة الامتلاك والتأويل. ولهذا يجب تحرير الدين من “مُلَّاكه” و”مُستثمريه”، فالأصل في الدين هو الحرية، من خلال واقعة “مطلق التسليم في مطلق الحرية”، والتحرير يكون بفهم النص بعيداً عن الارتهانات والاشتباكات السياسية الدائرة بلا انقطاع، وبالعودة إلى “أصله” الخالص والمتخلص من كل الالتباسات المفهومية والتوظيفات الآيديولوجية، وهو ما يستوجب مشروعاً نقدياً/بنائيّاً لإعادة ترتيب العلاقة مع الدين والتدين في المجال التداولي الإسلامي.
وبخصوص الحقل الثالث المفتوح على الشرط الإنساني، فلا بد من توكيد أن الجائحة قد أوصلت الإنسانية إلى “رعب معمَّم” يختبره الجميع، بما يجعل من الأفق العامّ أفقاً كونياً شاملاً، ما يوجب البحث عن كتابة مصير أوحد، “دينه” التسامح والتعايش والحوار، وهو ما يتطلب بذل مجهود أكبر على مستوى التحرر من وهم التفوق والفارقية التي يروّجها مُلَّاك السلط الرمزية من مؤولي النصوص ومستثمريها، فالنص الأوحد لا يوجد إلا في “مخيال” من يعمل على “توثينه”، وعليه فلا يمكن تدبير تجربة دينية مفتوحة على حكايات تأسيساتية عابرة للثقافات والحضارات والأديان، بنص وثوقي، يتسربل بالسياسي والصراعي، أكثر مما يتصل بالديني والروحي.
الأمر يتجاوز تصريحات ماكرون والرسوم المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام، وحتى العمليات الإرهابية المرفوضة، فالأمر جلل وعلائقي، يمتدّ إلى البنيات الحاضنة للتطرف، والتي تشتغل في إطار اعتمالات وصراعات وتفاوضات ومساومات، تنتج سلطاً وأرباحاً وخسائر أيضاً. وهذا ما ينبغي الانتباه له في مستويات القراءة والتأويل، فما حدث، سيُعاد إنتاجه في سياقات قادمة، وبأشكال مجددة، على اعتبار أن “تنظيم الدولة الإسلامية” لم ينتهِ، وأن “ذئابه المنفردة” ما زالت تتكاثر، بسبب البيئات الطاردة للحوار والتعايش والحياة.
ما نحتاج إليه اليوم في تعليمنا ونظامنا السياسي في دول الجنوب كما الشمال، هو الانقطاع عن “تقديس الحقيقة” و”توثين الأفكار”. فكل شيء قابل للمساءلة والنقد، أملاً في بلوغ مطمح الفهم التأويلي. فلا ينبغي أن ننسى أن الشراح والملاك يلجؤون، في كثير من الأحيان، إلى الاستنجاد بقاموس الحِلّية والحرمة للتعاطي مع كل واقعة دينية أو دنيوية، فاستدعاء خطاب “يجوز ولا يجوز” المُرفَق بالتبديع والتفسيق والتأثيم والتكفير، يظلّ الأكثر جُهوزية واستعمالية، في بناء الموقف الحجاجي مع ما يستجدّ من نوازل، وفي ذلك منع لإعمال الفكر، وتوكيد لوجوب الطاعة والإجماع، فالشُّرَّاح والمُلَّاك يعملون على تسييج الحقل الديني بكثير من “المتاريس” و”الفزاعات” التي تبعده عن المساءلة والفهم والتأويل.
من الإعاقات المعرفية التي تصادر العبور إلى معنى الفعل الديني، تلك التي تتوزع بين خطابَي التمجيد والتبخيس، مع أو ضد، إذ يقف أصحاب هذه القراءات خارج “التجربة الدينية” موالاةً افتتانية أو معارضةً انتقامية، ولا ينتهون من شحذ الأدوات والإمكانيات، لإبراز التفوق الهوياتي والامتياز الديني أو تبيان المحدودية واللا فاعلية الدينية، فيما المطلوب في إطار الفهم التأويلي هو العبور إلى السياقات التاريخية والاجتماعية والثقافية التي أوجدت هذا الفعل على هذا النحو وعلى غيره في أنساق دينية وثقافية أخرى.
ما نعيشه اليوم، وفي أكثر من سياق، هو محاولة فجة لسرقة الإنسان من إنسانيته، عن طريق تحويله إلى آلة مفرغة من الدلالات والرمزانية، فالتشييء والتقننة والرأسملة المادية تحديداً، لا تنتج في النهاية إلا مزيداً من “الإنسان المدجن” تقنياً، والمجرد من “روح الاعتقاد”، قصداً أو عفواً أو “نتاجاً” خالصاً لمسارات من التحويل والتحوير. فلا ينبغي أن ننسى أن الإنسان والمجتمع، لا يمكنهما التخلص من “الإرث الرمزي” héritage symbolique الذي يحتوي عليهما، ومنذ الأزل.
إن المدّ التقنوي الذي يحاصر النصوص المجتمعية، ويحاول إفراغها من محتوياتها الدلالية الرامزة، والذي يترافع حيناً بشأن تآكل “الديني” ونهاية “الاعتقاد”، وإمكان تدبير “المقدس مِن بُعد” كما الحال مع مُوجِبات التباعد الاجتماعي، التي أفرزتها الاحترازات الصحية والوقائية خلال جائحة كورونا، كل ذلك لا يسمح بالانجرار وراء أطروحة “النهايات”، لصالح تجذير “سلطة الآلة” والتقننة والشييء، فثمة ما يستحقّ الانهمام، تشفيراً للرموز وترتيباً لها في صياغات وفُهوم الراهن والقادم.
فرنسا والإسلام والعنف الآيديوديني، ضمن هذه الثلاثية إذاً، يمكن تدبير مسالك الفهم في البدء والختام، لنعي جيداً أنه صراع أنانيات قاتلة، بدل أن يكون محور تأويلات عقلانية مُثْرِية للفهم والتعايش والبناء الحضاري للمشترك الإنساني. فما أحوجنا إلى تفكيك وافتكاك النصوص من سلطة الشراح، الذين يرون الدم سبيلاً للفعل وردّ الفعل، فما أحوجنا إلى الإسلام في صفائه وإلى الأنوار فكراً وممارسة.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.
المصدر: TRT عربي