ترمب.. هل يعود البطل ثانية لينتقم؟
[ad_1]
كان العشرون من يناير/كانون الثاني 2017 وفق الكثيرين واحداً من أكثر الأيام كآبة على شوارع العاصمة الأمريكية، بينما ترمب ينتقل إلى البيت الأبيض واعداً “بتجفيف المستنقع”، قاصداً فساد النظام السياسي السائد.
بعد يوم واحد، نزلت مئات آلاف النساء إلى شوارع العاصمة في مسيرة نسائية مركزية واكبتها مسيرات مشابهة في أمريكا والعالم، في احتجاج صارخ ضد ما يمثله ترمب الشخص والحالة من ذكورية وعنصرية اعتُبرت على نطاق واسع “فجة”.
أربع سنوات ظل فيها الرئيس غريباً عن الوجه الآخر للعاصمة التي يتراصف على قشرتها الباردة السياسيون والنصب التاريخية والمباني الفدرالية والرموز، بينما يحضن مضمونها الرحب تنوعاً عرقياً وثقافياً يجعلها من أكثر مدن العالم تسامحاً مع الاختلاف ومن أشدها تبنياً للأفكار التقدمية اجتماعياً.
لم يجفف ترمب “المستنقع” كما وعد أثناء حملته الانتخابية، والأرجح أن لا اهتمام لديه بتجفيف أي شيء أبعد من شعره الذي أصبح أيقونة بحد ذاته. هي عبارة رنّانة أخرى من مجمل عبارات ليس لها معنى حقيقي، بخاصة إذا جاءت من رجل فخور بأنه يناصب السياسة نفسها العداء، ولم يبدر عنه قط ما يوحي بأنه ينتمي إلى رؤية أو حتى تصور ما للبلد في السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد.
لكنها العبارات الرنانة الجوفاء نفسها، أوصلته إلى البيت الأبيض في المرة الأولى، وكادت تعيده أكثر ثباتاً وقوة في المرة الثانية. نحو 73 مليون أمريكي اقترعوا لصالحه. الأكيد أنهم يرون فيه ما لا يراه النصف الآخر من الأمريكيين، وإلا لما اقترعوا له، ولما أصيبوا بالإحباط وهم يرون خصمه يتفوق عليه، ولا شك أن نسبة لا يستهان بها منهم مقتنعة تماماً الآن ومن دون أي دليل بأن تزويراً ممنهجاً وقع وأن رئيسهم ضحية مؤامرة، فقط لأنه غرّد لهم ذلك بحروف كبيرة. وقد استجاب منهم عدد كبير وتجمهروا في شوارع العاصمة واشنطن تأييداً له.
هذه الترمبية التي راج الحديث بعد الانتخابات عن انتصارها على الرغم من خسارة صاحبها، أن تقبل بلا جدل وكحقائق دامغة كل ما يقوله دونالد ترمب، لأنه البطل -القائد الذي يواجه الجميع من أجل الأمريكي الأبيض، الذي يرى امتيازه يتسرب من بين أصابعه لصالح شركات عملاقة ووول ستريت ومهاجرين ودول أجنبية شبه عدوة وهوليود ونتفلكس وإعلام ليبرالي يجهد على مدار الساعة في سحق قيمه -كما يعتقد- وتدمير أخلاقه، ويسوق ”أكذوبة“ الاحتباس الحراري، لجعله يشكك بواجبه الديني في أن يقرر عن المرأة خيارها بالإجهاض من عدمه، وصولاً إلى حقه المقدس غير القابل للجدل في امتلاك مروحة مخيفة من الأسلحة على أنواعها.
ترمب الذي صنعه تلفزيون الواقع وصحافة التابلويد تفوق في التلاعب بالميديا على أنواعها التقليدية والحديثة ليطرح نفسه ملهماً للشعبوية والشعبويين، جمع في سلة كل نظريات المؤامرة التي تخيف مريديه، ورماها عليهم طارحاً نفسه المنقذ الوحيد لهم من خطر الاشتراكية والرأسمالية معاً، ومن الإعلام المزيف، ومن نهاية “الحلم الأمريكي” حين يتسلل الأفارقة الأمريكيون إلى الضواحي ويقضون على أمنها وأمانها. من المهاجرين غير الشرعيين الذين سيقضون ليس على وظائف الأمريكيين البيض فحسب، بل أيضاً على تفوقهم العددي في المدى الطويل.
وترمب ليس مضطراً إلى أن يشرح كل ذلك بتنظيرات فلسفية محكمة وخطاب نخبوي، فقط بإلقاء التغريدات تلو التغريدات التي تتضمن الكثير من الأخبار الكاذبة، وكما في السينما السيئة فإن الأب القائد البطل هو الذي سيواجه بمفرده الوحوش كلها ويردها حتى عن المُزارع المنسي في ولاية في وسط غرب أمريكا، لا أحد يسمع باسمها إلا حين يبدأ فرز الأصوات بعد الانتخابات.
هكذا يتحول ملياردير نيويوركي لم يستخدم في حياته ربما وسيلة نقل عامة إلى نصير العمال والفلاحين. الرجل نفسه بسيرته الذاتية المعلنة التي لم تلحظ قط تدينه، يصبح أقرب إلى مبشر للمسيحية وقيمها وأخلاقها عند جمهور كبير من المتدينين ومن مسنين محافظين على امتداد خارطة أمريكا، بل ويعين له مستشارة روحية تنادي على الملائكة لنصرته.
و أيضاً يضم تحت جناحيه عتاة المتطرفين البيض الذين يقتاتون من نظريات المؤامرة، ويؤمنون بأنهم لا يأخذون حقهم إلا بيدهم، وهم الأكثر استعداداً ذهنياً للتصرف دفاعاً عن العقيدة (إذا كان يمكن توصيفها كذلك) وقائدها.
قبل ترمب، كان هؤلاء يعتبرون كل من في السياسة عدوهم، جمهورياً كان أو ديموقراطياً. منذ أربع سنوات صار ترمب قدوة لهم، يتطلعون إليه ويستقوون به، وبعضهم، الأشد اغتراباً عن الواقع، ينتظر إشارات مشفرة في تغريدات الرئيس يرسم من خلالها خطط عمله المقبلة ذوداً عن تفوق بياض أمريكا.
هؤلاء أخطر ما أخرجته الحالة الترمبية إلى السطح، في سنوات الهياج التي لا تزال أمريكا تعيشها. لكن أكثر من سبعين مليون أمريكي ليسوا ترمبيين بالضرورة، وإن كانت غالبية المقترعين له من البيض. يوجد أمريكي محافظ تقليدي، توارث الانتماء إلى الجمهوريين عن أجداده، لم يصوت يوماً لغير الجمهوريين، وربما لم يلتقِ يوماً أناساً غير جمهوريين. هذا، وإن كان غير راضٍ عن ترمب وتعاطيه مع أزمة كورونا مثلاً، فإن التصويت للديمقراطيين لا يمر بالقرب من خلده مطلقاً.
هو لديه منظومة أفكار وقيم ووجهة نظر كاملة عن بلده وحياته تقع في الطرف الآخر المواجه تماماً لمنظومة الديمقراطيين التقدميين منهم و“المعتدلين“. أمريكا قبل ترمب وبعده منقسمة على هاتين الوجهتين من النظر إلى البلد نفسه منقسمة على هوية أمريكا.
من الدقائق الأولى لإعلان فوز جو بايدن بالرئاسة السبت في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني، انفجرت شوارع واشنطن في احتفال جماعي شاركت فيه السيارات وراكبو الدراجات الهوائية والمشاة الذين كانوا يهللون في جماعات أو فرادى. وكما لو أن هؤلاء اتفقوا سابقاً، كانت الوجهة جادة بنسلفانيا، وصلوا إلى أقرب نقطة ممكنة من البيت الأبيض ليهتفوا برحيله، في مشهد أمريكي نادر يذكر بابتهاج شعوب مضطهدة لحظة سقوط ديكتاتوريها. وحتى ساعات صباح الأحد، ظلوا يرقصون ويغنون ويلصقون لافتات ورقية على السياج الحديدي ليودعوا “الخاسر” بما استطاعوا من سخرية وتشفٍّ.
هؤلاء كانوا خليطاً واسعاً من “الآخرين” الذين يقعون في الضفة الثانية من نقاش الهوية: بيض ليبراليون ويساريون ومسلمون وآسيويون واسبانك ومثليون. احتفلوا بالانتصار على ترمب وعلى الترمبية وعلى أمريكا المحافظة.
لكن أشدهم غبطة وتعبيراً عن الفرح كان الأفارقة الأميركيين. هؤلاء يمكنهم أن ينسبوا إلى صوتهم “معجزة” إنقاذ الحملة المتهالكة لجو بايدن لنيل ترشيح الحزب الديموقراطي، بعدما أعطوه كارولينا الجنوبية، لتكر بعدها سبحة انتصاراته ويفوز بترشيح الحزب الديمقراطي. وكما في الانتخابات التمهيدية، كان في الرئاسية، فمشاركتهم -أي الأفارقة- الكثيفة مرة ثانية “للطيب جو” في ولايات متأرجحة وأخرى محسوبة على الجمهوريين، قلبت الكفة لصالح المرشح الديمقراطي ونائبته كامالا هاريس.
رقص السود في الجادة قرب لافتة عملاقة تتدلى من أعلى بناء إلى أسفله، كتب عليها “حياة السود مهمة”. هنا رميت عليهم سابقاً القنابل المسيلة للدموع وفرق تجمُّعهم السلمي بقوة الهراوات، ليمشي ترمب خطواته المشهودة من البيت الأبيض إلى الكنيسة ويرفع الإنجيل، وبدا كمن يفتتح رسمياً حملته الانتخابية مستغلاً كتاباً مقدساً، وواحدة من أقسى الأزمات التي تواجهها الولايات المتحدة منذ عقود.
في السبت الخريفي المشمس والدافئ، بدا الأفارقة الأمريكيون كمن نالوا العدالة في قضية جورج فلويد. أما العاصمة فكانت تودع ضيفاً ثقيلاً أتى إليها من دون رغبتها، ولم يكن مُرحَّباً به وقد أطال الإقامة. الابتهاج الزائد كان حساباً تأخرت واشنطن في تصفيته مع دونالد ترمب. على أنها أيضاً جسدت شعور نصف الأمريكيين والنقيض التام لشعور النصف الآخر.
لم يجفف ترمب المستنقع ولم يستطع كسب ود العاصمة. لكن واشنطن ليست أمريكا، وهو إذ يخرج منها قريباً، فليدخل إلى المستنقع الهائل للبلد المنقسم على تصوُّره لهويته، حيث مستقبل ترمب وترمبيته لا يزال مبهماً. لكنه قد لا يكون ذهاباً بلا رجعة. لا يزال قائماً احتمال عودته منتصراً إلى المدينة عام 2024، إذ يمكن أن يتحقق السيناريو المتوقع للأجزاء الثانية من أفلام الآكشن الأمريكية، حيث البطل دائماً يعود لينتقم.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.
المصدر: TRT عربي