هل نتعلّم لغة الإيموجي ونحرق كتب النحو؟
[ad_1]
نحو 92% من مرتادي وسائط التواصل الاجتماعي يستخدمون الإيموجي للتواصل ويعتمدون كلّ يوم على أكثر من 6 مليارات من هذه الرّسوم المُبسَّطة في أحاديثهم، حسب أرقام OpenMind 2017. كيف تحوّلت رموز الإيموجي إلى لغة عالمية؟
كل مَن يظنّ أنه وحده من
يتوه بين معاني “الإيموجي” ما عليه إلا أن يقرأ قصّة المراهق الأمريكي
الذي حوكم قبل أربع سنوات بتهمة الإرهاب بعد أن نشر على فيسبوك أيقونة مسدسٍ
موجَّه إلى شرطي، أو الرجلٍ الفرنسي الذي أُدينَ وأُودِعَ السجن بعد أن أرسل إلى
صديقته التي هجرته رسائل نصّيّة تضمّنت صورة مشابهة. الأول دافع عن نفسه قائلاً
إنه ما كان ينوي سوى الاحتجاج على عنف الشرطة ضد الأمريكيين الأفارقة، والثاني قال
إن إيموجيناته لا تعدو شكلاً من المناكفة بين حبيبين وأنه ما كان ليقتل نملة.
الحادثان اضطرَّا “آبل” إلى مسخ رمز السّلاح إلى مسدَّس ماء! لكن
الواقعة أيقظت العالم إلى ما كان يتغاضى عنه: لغة الديجيتال فرضت أثراً لا رجعة
فيه ولا مناص من فتح أوراش نقاشات قانونية واجتماعية وثقافية في ما يعنيه ذلك.
حلم ابتكار لغة مشتركة
بين البشر كافة داعب خيال دعاة النزعة الإنسانية منذ القِدَم، لكن لم يفلح أحدٌ في
إزاحة لغات الحضارات الرّاسخة من منزلتها وتعطيل صيرورة تاريخية تربط شيوع اللغات
بقدر اتساع سطوة حملتها سياسياً واقتصادياً وثقافياً. لغة الإسبرانتو التي وضعها
طبيبٌ بولندي أواخر القرن التاسع كانت التجربة الأوفر حظاً قبل أن تتحول بدورها
إلى لغة أخرى بقواعد ومعجم ودون تراث أو فنّ. نعم، توجد نظمٍ للتواصل عابرة للشعوب
مثل “شفرة مورس” أو لغة الإشارة، لكنها لا تتعدى نطاق المتخصّصين الضيق
ومجالات استخدامها البعيدة عن الجمهور. الأمر مختلف هنا مع رموز إيموجي التي تكاد
تتحول بحقّ إلى لغة عالمية جامعة.
نحو 92% من مرتادي وسائط
التواصل الاجتماعي يستخدمون الإيموجي للتواصل ويعتمدون كلّ يوم على أكثر من 6
مليارات من هذه الرّسوم المُبسَّطة في أحاديثهم (OpenMind 2017). وإذا علمنا أن عدد مستخدمي الإنترنت بلغ هذا العام 4.1 مليار
شخص، أي نحو 60% من سكان الأرض، وفق تقديرات الاتحاد الدولي للاتصالات، فليس من المبالغة
في شيء أن نُقِرّ بأن تلك “الاسمايلات” البريئة لم تعُد لعب أطفال، بل
صارت بحقٍّ نسقاً تعبيرياً عتيداً يزاحم الإنجليزية على سعة الانتشار، بل إنها
أصبحت من الانتشار بحيث اختار قاموس أوكسفورد الرّصين رمز “الوجه الضّاحك
الباكي” العبارة الأكثر ذيوعاً عام 2015.
يمكن اعتبار قرار
“آبل” إدراج رموز الإيموجي للمرة الأولى ضمن الجيل الخامس من نظام
التشغيل “آي أو إس” شهادة ميلاد رسمية لهذا النسق من التواصل، لكن
الفكرة ذاتها نشأت قبل ذلك بكثير. التسمية عبارة يابانية مُركَّبة من
“إي” التي ترمز إلى الصّورة، و”موجي” أي الشخصية، وقد بدأ
انتشار الكلمة في النصف الثاني من التسعينيات ضمن ما اكتسح العالم الرّقمي من
مصطلحات في فورة الحماسة إلى كلّ شيء افتراضي وبالتزامن مع اعتماد أنظمة التسيير
والتواصل الرقمية بعد فترة ترقُّب وشكّ.
اقرأ أيضاً:
“اللهو
الرقمي”.. كيف نجمع شتات أفكارنا بعصر العبث؟
حصول الإيموجي على
“شرعية وظيفية” جعلها محطّ اهتمام مجمع الترميز الأمريكي الموحَّد
“يونيكود”، وهي هيئة تنسيق غير ربحية مقرّها في كاليفورنيا، أنشأها
عمالقة التكنولوجيا الرقميّة أمثال “آي بي إم” ومايكروسوفت وغوغل
وآدوبي… وتكفّلت بتوحيد صيغ الكتابة باستخدام الحواسيب، بما فيها الصُّوَر
التعبيرية، وتحرص على تحيينها بانتظام. النسخة الأخيرة الصادرة في يوليو 2020
أدرجت 55 صورة إيموجي جديدة ليصل عددها الإجمالي إلى أكثر من 3400 رمز، فهل تكفي
لتحيط بكل حالات المستخدم النفسية وأفكاره ورغباته التي لا تُحصَى؟
قد يستقبل
“المخضرمون” الذين عاشوا ما قبل ثورة الديجتال وما بعدها جهود تقعيد
الوجوه الباسمة والغاضبة ورسوم الحيوانات والأدوات باستخفاف ويعتبروها نكوصاً عن
الكتابة إلى عصر الصورة/الفكرة الذي غادرناه منذ قديم. أولى المحاولات البشرية
لتمثيل المعلومة بصرياً تعود إلى عشرين ألف عامٍ على الأقل عبر الرّسم التصويري “البكتوغرام”
الذي نجده في رسوم الكهوف والصخور ثم الكتابة الرّمزية أو الرّسم الفكري
“الآيديوغرام” الذي يستخدم رمزاً للإشارة إلى مفهوم أو فكرة كما كان
الشأن في السّومرية والهيروغليفية المصرية والكتابة الصّينية… وصولاً إلى أحد
أعظم ابتكارات البشرية: الكتابة الأبجدية التي استُخدمت في اللغات السامية في
الألفية الثانية قبل الميلاد ومنها تفرعت الأبجديات المعروفة.
إلا أن استخدام
“البكتوغرام” لم يختفِ كلياً حتى في عصر الكتابة، وما أكثر الأدلة
حولنا! مثل إشارات الاتجاهات وعلامات السَّير وتعليمات السّلامة التي تتعدى فوارق
اللغات والثقافات عبر العالم وتؤدي وظائفها بنجاح. تقول الدكتورة شورلي بن دور،
عالمة المصريات التي تستخدم الإيموجي لتشرح للجمهور مبادئ الكتابة الهيروغليفية،
إن الناس لم ينقطعوا أبداً عن استخدام الصورة وحركة الجسد للتعبير، وإن الصّورة
أكثر فاعلية في إيصال الفكرة من الكلمة، وترى أنه لا داعي إلى الخوف من عودة
الرموز إلى حياتنا بهذه القوّة لأن “القديم جزء أصيلٌ ونافعٌ من الحاضر”.
من الواضع إذن أنّنا لسنا
أمام تقليعة سرعان ما تزول، ولا مفرّ من الانخراط في التأقلم مع ما سيغدو أمراً
واقعاً. عند ولادتها لم يتعد الجيل الأوّل من الإيموجينات التي صمّمتها
“دوكومو” اليابانية ١٢ رمزاً من بكسلات مكعبة لا تكاد تبين وتعتمد على
الإيحاء ومخيلة المتلقي وفهمه المسبق لسياق الرّسالة. ويقول المتفائلون إنه كلّما
تطورت الهواتف النقالة ارتفعت جودة الإيموجينات وقلّت احتمالات الغموض والتفسيرات
الخاطئة وتركت مساحات أقل للتخمين.
ومع ذلك فمن السّابق
لأوانه أن نتوقّع أن نجد ضمن الصيغ المعروضة ما يفصح دائماً عن مشاعرنا بدقّة.
ماذا حين تنتابنا في ظرف ما مشاعر مختلطة تتراوح بين الإعجاب والخوف والحب المشوب
بالقلق؟ هل من إيموجي يتسع لذلك؟ ناهيك بالفوارق الثقافية والجغرافية، واختلاف
الأذواق والاختيارات وأساليب الحياة المنقطعة النظير والمهن الفريدة والهوايات غير
المألوفة… التحديثات تحاول أن تأخذ بالحسبان تنوع الأعراق في المجتمعات الحديثة،
ولكن من غير المعقول أن يجد كل زوجين مثلا بين الإيموجي رسماً يرمز إلى ارتباطهما
ويعكس لون بشرة كلّ منها بأمانة لأن ذلك يتطلب آلاف الرّسمات لتغطية كلّ
التشكيلات.
مصمّمو الرموز بشرٌ
يفكّرون انطلاقاً من تجاربهم وفي منظورهم الرّجل الأبيض ومحيطه. عدا أن الإيموجي
في الغالب رسمٌ هجين بين البكتوغرام والآيديوغرام، مما يفسح المجال لتأويلات شتى
ومتناقضة أحياناً، إلا أن ذلك تحديداً هو ما يرى فيه آخرون خصوبة في التعبير
وتعدّداً في الإمكانات التي توضّحها السياقات الخاصة والقواسم السوسيوـ مهنية
المشتركة لدى كل جماعة من المستخدمين. صورة كوب القهوة قد تعني بين مجموعة من
الزّملاء أن القهوة باتت حاضرة لمن يريد تناولها، أو “أنا بانتظارك في
المقهى”، أو أن المستخدم يستمتع بشرب قهوته الصّباحية بكل بساطة… ورمز الشخص
المنحني إلى الأمام يُقصد به في اليابان تحية الاحترام والأدب، فيما يُستخدم في
مناطق أخرى للدلالة على التفوق وإخضاع الخصم.
ومع قصورها عن اللغة
التقليدية لن تسلم لغة الإيموجي من وراثة همومها، ومنها نزعة “الصّوابية
السياسية” الحديثة. يقف إيان بوغوست، أستاذ الإعلام بمعهد جوريا للتكنولوجيا
ومصمّم الألعاب الإلكترونية، عند مبالغة مجمع “يونيكود” في الاستجابة
لكل الحساسيات وجماعات الضغط والحملات، ومحاولة إرضائها جميعاً على حساب الاختصار
والبساطة والوضوح التي من أجلها نشأت الرّموز في مبتدأ الأمر. عندما أعلن المجمع
نيته إضافة إيموجي عليه نقطة دم للاستخدام في كل ما يتعلق بالجروح أو التبرّع
بالدم مثلاً ضغطت جماعاتٌ من أجل رموز تمثّل حالة مَن تدافع عنهم خصوصاً، مثل
منظمة نسوية تكافح لرفع ثقافة “العيب” التي تحيط بمظاهر الأنوثة، وطالبت
بوضع رمز خاص بالدورة الشهرية، وعندما قرّر إضافة رمز جامع لكرسي متحرك للدّلالة
على ذوي الاحتياجات الخاصّة تلقّى طلبات عديدة لإدراج أشكال أخرى من الإعاقة
يستخدم أصحابها الكلاب المدربة أو أطرافاً صناعية…
الزّمن وحده كفيل
بإخبارنا ما إذا زادت الإيموجي تواصلنا وضوحاً أو غموضاً، إلا أن خطرها على أشكال
التعبير التي راكمتها البشرية في تاريخها الطّويل ماثلٌ للعيان. وكسائر مُنتَجات
العولمة يُخشَى أن تشغل الإيموجي الجيل الناشئ عمّا سواها وتحرمه تَعلُّم مهارات
التواصل الجسدي وتعدُّد اللغات وأشكال التعبير الأخرى المرتبطة بالكتابة، مثل
الأدب والشعر والرّسم الحقيقي.
المصدر: TRT عربي