تاريخ الانقـ.ـلابات العسـ.ـكرية في الإسـ.ـلام.. إهدار الشـ.ـرعية الدسـ.ـتورية سببا والمـ.ـوت في السـ.ـجن مصـ.ـيرا
“الخلافة بعد مُنْقَرَضِ [الخلفاء] الأربعة الراشدين شابتها شوائبُ الاستـ.ـيلاء والاستـ.ـعلاء، وأضحى الحقُّ المحضُ في الإمامة مرفـ.ـوضا، وصارت الإمامة مُلْكاً عضوضا”!!
كانت تلك خلاصة تاريخية وفقهية مركّزة ومعبِّرة سطّرها الإمام الجويني (ت 478هـ/1185م) في كتابه ‘غياث الأمم‘، ليُبرز بها إحدى كبريات الحـ.ـقائق التي انْبَنى عليها تاريخنا الإسـ.ـلامي بحقبه المتطاولة ودوله المتعاقبة، وعلى أساس منها صارت عبارة “مـ.ـات في السجن” ونظائرُها دارجةً في بطون كتب التاريخ والتراجم، تلقاك وأنت تبحث في سيرة سلطان أو معـ.ـارض سيـ.ـاسي.
ولئن كان المـ.ـوت في السـ.ـجن من العقـ.ـوبات التي تواتـ.ـرت كثيرا في تاريخنا الإسلامي؛ فإنه من العجـ.ـيب أن تجد ذلك يتكرر عند تتبع سِيَر خلفاء وملوك وسلاطين حكموا في جميع العصور، وعلى طول امتـ.ـداد بلاد المسلمين مشرقا ومغربا؛ وكأن السجن -وما يتبعه غالبا من المـ.ـوت داخله- هو المصـ.ـير الحتـ.ـمي لكل من خانه ميزان القـ.ـوى في لعبة الصـ.ـراع على السلطـ.ـة، عند غياب مرجعية دستورية يتحـ.ـاكم الخـ.ـصوم إليها بقناعة وتجرد.
فقراءة قصص مـ.ـوت السلاطين المخلوعين في سجـ.ـونهم -بل وتاريخ السـ.ـجناء السيـ.ـاسيين عموما- تعطي فرصة مثلى للتعرف على جانب آخر من التاريخ السـ.ـياسي الإسلامي، وإطلالة معرفية لتفحّرص تاريخ الشـ.ـرعية الدسـ.ـتورية ليس نظريا عبر الفقه السياسي فقط، بل ومن خلال الواقع باستعراض قصص الخـ.ـلع من السلطة عقب السطـ.ـوة والنفوذ، وفظـ.ـائع عتـ.ـمة الزنازين بعد رفاهية الملك وأبهة السلـ.ـطة.
كانت العرب تقول إن “المُلْك عقـ.ـيم”، أي قاطـ.ـع للرحم الأسَري والأخـ.ـلاقي طلبا للاستـ.ـبداد بالملك وثمراته!! والحقيقة أن أحوال التداول على الملك بالتـ.ـغلب كانت قاطعة للمثُـل والقيم الإسلامية قبل أن تقطع القيَم الرَّحِمِية؛ إنه جانب شـ.ـديد الضعف في تاريخنا ويجب أن نسلّم به كأثر بالغ السلبية لغياب مبدأ تداول السلطة شرعيا وسلميا، ومن مظاهره قتل السلاطين المخلوعين بالمـ.ـوت البطيء في السجـ.ـون وما في حكمها من إقامة جبـ.ـرية أو حصـ.ـار خانـ.ـق لسلطان أعزل.
إننا -في هذا المقال- لا نعتمد المقايسات بين النماذج التي سنعرضها، ولا نهدف لمقـ.ـارنة الملابسات بالملابسات أو الشخصيات بالشخصيات؛ فلكل حدث أو سجـ.ـن حديثه الخاص وظرفه المشتق من بيئته، وإن تطابقت أحيانا الدوافع وتشابهت الآليات. ثم إن هؤلاء السلاطين -بغض النظر عن طريقة وصولهم إلى السلطة- كانوا متفاوتين في الأهلية للحكم والرُّشدية في ممارسته.
سابقة خطيرة
رغم أن الإسلام جاء ليؤسِّس نظـ.ـاما سياسيا قائما على البيـ.ـعة والشـ.ـورى واحترام شرعية الأمة، وطاعة قيـ.ـادتها المختارة طالما ظلت مستمسِكَة بالحق ومنطلِقة منه؛ فإنه سرعان ما افترقت الأُسس والأخلاق السياسية عن الواقع، وظل التبـ.ـاعد بين الطـ.ـرفين يتزايد حتى اتسع الخَرق على الراقع في العصور الحديثة. وكان من نتائج هذا التباعد ظاهرة قتـ.ـل الخلفاء والأمراء والسلاطين المخلوعين؛ ومن أقسـ.ـى صور هذه الظاهرة ما يكون منها أحيانا بعد القدرة على “الحاكم المخـ.ـلوع”، فيقضي نحبه وهو في سجـ.ـن -أو مقـ.ـر إقامة جبـ.ـرية- تابع لخصمه الذي أطاح به، وهو من بني جلدته ومنتسبي دينه!
لقد كان مقتـ.ـل الخليفة الراشد عثمان بن عفان (ت 35هـ/656م) -رضي الله عنه- محاصَـ.ـرًا ببيته في وضعية السـ.ـجين أولى صور هذه الظاهرة في تاريخ الإسلام؛ ذلك أن الخارجـ.ـين على عثمان قد حاصـ.ـروه لأسباب سياسية محـ.ـضة، بعد أن ألّبـ.ـوا عليه ما استطاعوا الرأي العام في الأمصار الإسلامية.
وفي ذلك يقول الطبري (ت 310هـ/922م) -في تاريـ.ـخه- إن هؤلاء المعـ.ـارضين “جعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتُب يضعونها في عيـ.ـوب وُلاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون، فيقرأه أولئك في أمصـ.ـارهم وهؤلاء في أمصـ.ـارهم، حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يُظهرون، ويُسرّون غير ما يُبدون”.
وكان من مطالـ.ـبهم إقصـ.ـاء عثمان لأقاربه الذين اتهموه بمحـ.ـاباتهم بالوظائف على حساب المسلمين، كما زعموا ابتعـ.ـاده في تسيير الشأن العام عن طريقة صاحبيْه أبي بكر الصديق (ت 13هـ/635م) وعُمر بن الخطاب (ت 23هـ/645م). لقد فنّـ.ـد كبارُ الصحابة -مثل علي وطلحة والزبير رضي الله عنهم- هذه الاتهـ.ـامات، وبالتالي فشـ.ـلت خـ.ـطة المحـ.ـاصرين برفض عثمان لمبدأ التـ.ـنازل عن الحكم حتى لا يؤسس بذلك سابقة لمن بعده “فتكون سُنّةً: كلما كره قـ.ـوم خليفتهم أو إمامهم قتـ.ـلوه”؛ كما أورد الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ/855م) في كتابه ‘فضائل الصحابة‘.
شدد المحـ.ـاصِرون الطوق على بيت الخليفة لأسابيع كان فيها بمثابة السجـ.ـين قبل مقتـ.ـله في النهاية؛ ولم يقبل عثمان أي دفـ.ـاع مُسـ.ـلَّح عنه حتى لا تُهـ.ـرق دماء المسلمين بسببه فتكون تلك سنةً جارية في الأجيال اللاحقة. فابن ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) يروي -في ‘تاريخ دمشق‘- أن الحسن بن علي (ت 49هـ/670م) -رضي الله عنهما- دخل بسـ.ـلاحه على الخليفة عثمان، فقال له: “يا أمير المؤمنين، ها أنا ذا بين يديك فمُرني بأمرك؛ فقال له عثمان: يا ابن أخي وصَلتك رحِمٌ، إن القوم ما يريدون غيري، ووالله لا أتوقّى بالمؤمنين ولكن أُوقِي المؤمنين بنفسي”.
ثم زاد المحاصـ.ـرون التضيـ.ـيق عليه إلى أن بلغ حد منع الطعام والشراب عنه؛ حتى إن علي بن أبي طالب (ت 40هـ/661م) وقف فيهم يوما -حسب الطبري- فقال: “يا أيها الناسُ، إن الذي تصنعون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين! لا تقطـ.ـعوا عن هذا الرجل المادة (= الطعام والشراب)، فإن الروم وفارس لتـ.ـأْسِر فتُطعِم وتُسْقي، وما تعرَّض لكم هذا الرجل، فَبِمَ تستـ.ـحلون حصـ.ـره وقتـ.ـله؟!”. لقد كان القوم “يدًا واحدةً في الشـ.ـرّ” -كما يصفهم ابن سعد (ت 230هـ/845م) في ‘الطبقات الكبرى‘- فقتـ.ـلوا عثمان (ض) حبيـ.ـسا في مـ.ـقر “إقامته الجـ.ـبرية”، حيث أدخلوا عليه أحدهم “فخنـ.ـقه وخنـ.ـقه قبل أن يضربـ[ـه] بالسيـ.ـف”؛ طبقا لرواية خليفة بن خياط البصري (ت 240هـ/854م) في تاريخه.
انفراط مبكر
هكذا قضـ.ـى الخليفة عثمان نحبه دفاعًا عن حق الأمة في بقاء شـ.ـرعيتها الدستورية قائمةً ولو قُتـ.ـل رمزها. ورغم ذلك كان مقتـ.ـله رضي الله عنه “من أعظم الأسباب التي أوجبت الفتـ.ـن بين الناس، وبسببه تفـ.ـرّقت الأمة إلى اليوم”؛ وكان من آثار هذا التفـ.ـرق معـ.ـارك الجمل وصِفِّين بعد انقسام عميق بين الصحابة والتابعين إلى معسـ.ـكرين، أحدهما بقيـ.ـادة الخليفة الرابع علي بن أبي طالب والآخر بزعامة أمير الشام معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ/681م)، ثم مقـ.ـتل الخليفة علي سنة 40هـ/661م.
كان “عام الجماعة” سنة 41هـ لحظة فارقة في ذلك الانقسام الخطير؛ فقد تنازل فيه الحسن بن علي عن المطالبة بالخلافة وسلّمها إلى معاوية شريطة أن يعود الأمر شورى إلى الأمة بعد معاوية، ليختاروا لحـ.ـكمهم من يرونه الأفضل والأرشد لذلك. لكن معاوية -بمرور الوقت- قرر إبقاء السلطة في بيته الأموي بتولـ.ـيته ابنه يزيداً ولاية العهد، وقد علل المؤرخ ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) ذلك -في ‘المقدمة‘- بقوله إن “الذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد -دون مَن سواه- إنّما هو مراعاة المصلحة في اجتـ.ـماع النّاس، واتّفـ.ـاق أهوائهم باتّفـ.ـاق أهل الحلّ والعقد عليه حينئذ من بني أميّة؛ إذ بنو أميّة يومئذٍ لا يَرضون سواهم وهم عصابة قريش -وأهلِ الملّةِ أجمع- وأهلُ الغلَب منهم”.
وبغض النظر عن مدى سلامة تعليل ابن خلدون هذا؛ فإن ارتقاء يزيد -بعد وفاة أبيه سنة 60هـ/681م- إلى منصب الخلافة لم يكن بموافقة جميع الصحابة، بل عارضه مشاهير منهم مثل عبد الله بن الزبير (ت 73هـ/693م) والحسين بن علي (ت 61هـ/682م) وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق (ت 58هـ/679م). ولذلك شـ.ـهد عـ.ـهدُه أحداثًا ساخـ.ـنة كان على رأسها استشـ.ـهاد الإمام الحسين -رضي الله عنه- مطلع سنة 61هـ/682م في كـ.ـربلاء، ثم وقـ.ـعة الحَرَّة بالمدينة المنورة حين ثار أهلها سنة 63هـ/684م لإسقـ.ـاط حكـ.ـم يزيد.
وفي أثناء ذلك؛ جاء إعلان عبد الله بن الزبير خروجه على حُكم الأمويين، ثم قرر اللجوء إلى مكة المكرمة حيث “جمَع.. إليه وجوهَ أهل تِهامة والحجاز، فدعَاهم الى بيعته فبايعوه جميعًا، وامتنعَ عليه عبد الله بن عباس (ت 68هـ/688م) ومحمد بن الحنفية (= محمد بن علي بن أبي طالب المتوفى 81هـ/701م)… [ثم] أمرَ بطرْد عُمال يزيد من مكة والمدينة، وارتحل [والي المدينة] مروان (بن الحكم المتوفى 65هـ/686م) من المدينة بولده وأهل بيته حتى لحق بالشام”؛ طبقا لرواية أبي حنيفة الدِّينوَري (ت 282هـ/995م) في ‘الأخبار الطوال‘.
ومن هنا انطلقت شرارة معـ.ـركـ.ـة صـ.ـراع على الشـ.ـرعية ستستمر تسع سنوات (64-73هـ/685-693م) بين ابن الزبير الذي استطاع السـ.ـيطرة على معظم شبه الجزيرة العربية والعراق واليمن، والأمويين -بدءا من يزيد بن معاوية (ت 64هـ/685م) وانتهاء بعبد الملك بن مروان (ت 86هـ/706م)- المسـ.ـيطرِين على الشام ومصر، لكن في النهاية استولى الأمويون على العراق سنة 71هـ/691م، وحوصر ابن الزبير في مكة المكرمة سبعة أشهر كاملة كان طوالها في حكم السـ.ـجين.